[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
تأثير الإسلام في ربط المجتمعات الصحراوية بالبيئة الحضرية
1 – المقدمة :
بين المجتمع الصحراوي (باستعداداته الفِطرية) والبيئة الحضرية (المركب المنتظم الجديد) :
بعيداً عن عُقَدِ المادِّيَّة ومركباتها الكثيفة ، تمددت الصحراء على الأرض كالسهل الممتنع من البيان ، وفي كبدها الذي أحرقه حرُّ أيام الصيف ، وأرّقه قرُّ دياجير الشتاء ، تجمعت بعض الروابط الإنسانية التي لم تكن لتخرب صفاء فطرتها ألوانُ التكلف أوتحجبَ أصالتها براقعُ التصنع .
إذا أمعنت النظر في هذه التجمعات الإنسانيةِ رأيت الخير المنبعث عن الفطرة قريبَ المنال منك ، لا يحجبه إلا غطاء رقيق من جفاء المظهر ووحشة المزاج .
قد ألفت البوادي والقفار، ونفرت من قيود القوالب والمناصب ، اصطحبت الإبل والماشية ، وأحبت الأرض والزرع ، آثرت خفيف المسكن ، واكتفت بالضروري منه ، قُوُتُـها الحاضرُ في الوقت من محصود الزرع وخالص الألبان ، فإن أثْرَتْ نحرت الجزور للصحب والأحبة والخلان .
حياتها شمسٌ لم يستر وجهَها البهيَّ سحاب ، وهواءٌ لم يعكر صفوه داءٌ ، ولم يمنع جريان أنسامه حجاب .
اعتادت أن يكثر فيها القريب والحبيب ، واستوحشت من دواوين المحاكم ، وعقاقير الطبيب.
إنها بعض السمات الأصيلة في مجتمعات الصحراء ، لا سيما العربية منها ، ببساطتها وعفويتها ،وأمومتها لكل مجتمعات المدنية اللاحقة لها في الوجود ، فإذا أضيف إلى كل ذلك ما نجده في تاريخها من المكارم شجاعةً وكرماً وحفظاً للعرض ورعايةً للوشائج والأنساب ، وما نقرأه عنها من نخوة واحتشام ؛ فإننا تقف أمام سفر فريد تشتاق النفوس إلى صفائه وإنسانيته ، ولله در فتى الصحراء عنترة إذ يقول :
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها .
إنها الأرض الإنسانية الطيبة ، التي لا يحجبُ العاقلَ ما فيها من الجفوة عما فيها من الخير .
أما التكوين الآخر ، فهو ذلك التجمع الإنساني الذي لحقه التحضر والتطوير ، فانتقل من البسيط في كل شيء إلى المركب منه ، لم يعد يعمل للضروري من القوت والملبس والمأوى ، لكنه استعمل حاجات الترفه ، وأدخل إلى حياته الأدوات الكمالية ، وتفنن في العمران ، وفتح أبواباً من الفنون ، وتحوَّلَ من العادات الفردية والقبلية إلى نظام المدينة والدولة ، وأوجد المؤسسات المنظَّمة ، ووزع الوظائف بين الأفراد ، وحرّك الثروة المالية ونوّعَ مصادرها ، وأنشأ مختلف الصنائع ووسائلها .
و بحث عن العلوم وفتش عن أسباب زيادتها ، وكوَّن المؤسسة العلمية التي ترعاها وتتعهدها بالحفظ والنماء ، وانتقل من حفظ الأمن الفردي إلى حفظه بالدولة والشَرِطة والجيش.
إنه على كلٍّ قد اكتسب تطوراً لكنه - وللحقيقة نقول - خسر في الوقت نفسه كثيراً من الاستعدادات الإنسانية في مجتمع الصحراء ، فتأثرت بسبب تعقيد المآكل والمشارب صحته ، وتراجعت بسبب كدورات البيئة حيويته ، فليس الماء والهواء والشمس كما هي هناك ، ثم إنه أصبح بسبب هذا التغيير الأقل شجاعة ، والأندر كرماً ، والأبعد عن الحمِيَّة والاحتشام ( أنظر مقدمة ابن خلدون ص 134-135-136-142-460 ) .
2 – صلة الإسلام بكل من التجمعين الصحراوي والحضري :
الإسلام - وهو دين الله تعالى الذي أنزله إلى الناس كافة - لم يكن مخاطباً فرداً دون فرد ، ولا تجمعاً دون آخر، إنه رفع نداء الأمة الإنسانية الواحدة ، التي تقف في ساحة المعنى الواحد للعبودية ، متساوية بين يدي رب واحد : إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الأنبياء 92)
وليس غريباً إذاً أن نجد هذا الإسلام يعتبر كُلاً من التجمعين الإنسانيين المذكورين ، ويحترم خصوصية كل منهما فلا يلغي أحدهما ولا يدعو إلى زوال أي منهما لكنه يرتقي به إلى الكمال ويضفي عليه سمات جديدة لم تكن فيه من قبل ، ثم هو بعالميته لا يعطيه الاستقلالية المنغلقة ؛ بل يصل بينه وبين التجمع الآخر بروابط فريدة لم يُسبَق بمثلها ، محققاً تكاملاً عجيباً في أمة إنسانية واحدة ليست هي في الحقيقة إلا أسرة كبيرة قد تفرعت عن أب واحد .
2 – 1 كيف اعتبر الإسلام وجود المجتمع الصحراوي واحترم خصوصيته :
إن الإسلام مع دعوته إلى الإعمار بخطابه : ( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) ( هود 61 ) وحكاياته عن الصناعات الثقيلة : ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) الكهف{96} ، ودعوته إلى زيادة العلم : (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)(طه114)، تراه يُفرد للطبيعة حديثاً يتناغم مع أحاسيس الإنسان ، ويخص المجتمع البدوي بمخاطباتٍ تدغدغ أعماقه فيورد مفرداته التي يعيشها بكرة وعشياً بلغة جمالية بديعة ، ويصل بينها وبين حقائق توحيد الله تعالى ، لتكون النعمة موصولة بعطاء منعمها سبحانه ، واقرأ في الكتاب الكريم :
( وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )(5 -11) النحل
( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ(80-81) النحل
( أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) (17-20) الغاشية
قال بعض الأعراب، وقد سئل ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال: يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير (تفسير ابن كثير ج1 ص88).
إنها لغة قد لا نجدها في المجتمعات التي التهمتها المادية الطاغية حتى أنستها غير ما هي فيه من الاشتغال بالتقانة والوسائل الجديدة ، والآلات المستحدثة ومصادر الطاقة ، وكاد الإنسان في المجتمع الجديد يصبح آلة متحركة بين الآلات ، ومصلحةً بين المصالح .
أما الإسلام فإنه حافظ في دعوته على التوازن بين حاجة الإنسان إلى التطوير ودوام مواصلته لجذور إنسانيته وعفويةِ أصالته ، وهكذا دعا في بعض الأوقات دعوة صريحة إلى المجتمع الصحراوي للإفادة من خصوصيته : فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة أسلم أن تقصد البادية مستشفية بها حين أصابها وجع وقال لهم : يا أسلم أبدوا (عزاه في كنز العمال إلى أبي نعيم – مسند سلمة بن الأكوع )
وقال صلى الله عليه وسلم : إن زاهرا باديتنا ، ونحن حاضروه (البغوي عن أنس – كما في الكنز - الحديث رقم 8327 ، ومسند الإمام أحمد في مسند أنس بن مالك)
قال المناوي في شرح هذا الحديث : إذا تذكرنا البادية سكن قلبنا بمشاهدته (فيض القدير ، شرح الجامع الصغير – الحديث رقم 2275) ، ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم يحِنُّ إلى البادية ويشتاق إليها ، فيسكن قلبه برؤية واحد من أبنائها البررة ، فيكون – مما تقدم - معنى الاستشفاءِ بالبادية متصلاً بالجسد والنفس .
وقال المناوي في شرحه أيضاً للحديث المتقدم : إذا احتجنا متاع البادية جاء به إلينا فأغنانا عن الرحيل (فيض القدير ، شرح الجامع الصغير) ، وهو بهذا يشير إلى المجتمع البدوي الصحراوي كمصدر هام من مصادر الحاجة التي لا يستغنى عنها .
إضافة إلى ما ذكر فإن في المجتمع الصحراوي خصوصية يهتم المسلمون بها وهي خصوصيته اللغوية فها هو الإمام الشافعي رحمه الله منذ نعومة أظفاره ، يرحل إلى البادية يطلب فيها اللغة والأدب والشعر ، ويلازم هُذيلا عشر سنوات – وقيل عشرين - فيتعلم منهم لغات العرب وفصاحتها ( أنظر البداية والنهاية لابن كثير )، وقد قال مصعب الزبيري : كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الشافعي على شعر هُذيل حفظاً (معجم الأدباء" لياقوت الحموي 299:17 ، كذا في تقدمة الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة لموطأ الإمام مالك رواية محمد بن الحسن ).
وقد توهم بعض الناس أن الإسلام ألصق الكفر والنفاق بجميع سكان البادية–، آخذين هذا الحكم العام من قوله تعالى : ( الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (التوبة -97) والأعراب في اللغة سكان البادية .
ولو أنهم تابعوا التلاوة في الكتاب الكريم لوجدوا بعد آيتين قوله تعالى : وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة -99) وهذا صريح في إخراج المؤمنين من ذلك الحكم العام الواهم .
وتروي الصحابية البدوية أم سنبلة فتقول : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدية فأبين نساءُ النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذنها وقلن: إنا لا نأخذ هدية. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"خذوا هدية أم سنبلة فهي أم باديتنا ونحن أهل حضرتها .
وتروي أم المؤمنين عائشة قصة هذه البدوية فتقول : أهدت أم سنبلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبناً فلم تجده فقلت لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا أن نأكل من طعام الأعراب ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه فقال: "ما هذا معك يا أم سنبلة؟" قالت: لبن أهديته لك يا رسول الله. قال: "اسكبي أم سنبلة". فسكبَتْ فقال: "ناولي أبا بكر". ففعلت فقال: "اسكبي أم سنبلة". فسكبت قال : "فناولي عائشة" …قال: "اسكبي أم سنبلة" فسكبت فناولته رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب . تقول عائشة : ..يا رسول الله قد كنت حدثت أنك نهيت عن طعام الأعراب! فقال: "يا عائشة إنهم ليسوا بأعراب هم أهل باديتنا ونحن [أهل] حاضرتهم وإذا دعوا أجابوا فليسوا بأعراب".
(رواهما أحمد وأبو يعلى والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح - كذا في مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي - كتاب البيوع - الحديثان : 6732 - 6733)
ولما طُعِنَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأوصى الخليفة من بعده فقال : وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام . ( صحيح البخاري - باب: قصة البيعة - الحديث رقم 3497 ).
وقَالَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه : نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةَ الْعَاقِلُ، فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ (صحيح مسلم - كتاب الإيمان باب السؤال عن أركان الإسلام ).
وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين سكنوا البادية زاهر بن حرام الأشجعي ، وحازم بن حرام الجذامي ، وأبو شجرة السلمي ، وأبو قيس الجهني ، وأم سنبلة الأسلمية وغيرهم كثير (أنظر الإصابة لابن حجر) .
وما تقدم يكفي للدلالة على اعتبار الإسلام لمجتمع البادية وأبنائها ، واحترامه لخصوصيته ومزاياه .
تأثير الإسلام في ربط المجتمعات الصحراوية بالبيئة الحضرية
1 – المقدمة :
بين المجتمع الصحراوي (باستعداداته الفِطرية) والبيئة الحضرية (المركب المنتظم الجديد) :
بعيداً عن عُقَدِ المادِّيَّة ومركباتها الكثيفة ، تمددت الصحراء على الأرض كالسهل الممتنع من البيان ، وفي كبدها الذي أحرقه حرُّ أيام الصيف ، وأرّقه قرُّ دياجير الشتاء ، تجمعت بعض الروابط الإنسانية التي لم تكن لتخرب صفاء فطرتها ألوانُ التكلف أوتحجبَ أصالتها براقعُ التصنع .
إذا أمعنت النظر في هذه التجمعات الإنسانيةِ رأيت الخير المنبعث عن الفطرة قريبَ المنال منك ، لا يحجبه إلا غطاء رقيق من جفاء المظهر ووحشة المزاج .
قد ألفت البوادي والقفار، ونفرت من قيود القوالب والمناصب ، اصطحبت الإبل والماشية ، وأحبت الأرض والزرع ، آثرت خفيف المسكن ، واكتفت بالضروري منه ، قُوُتُـها الحاضرُ في الوقت من محصود الزرع وخالص الألبان ، فإن أثْرَتْ نحرت الجزور للصحب والأحبة والخلان .
حياتها شمسٌ لم يستر وجهَها البهيَّ سحاب ، وهواءٌ لم يعكر صفوه داءٌ ، ولم يمنع جريان أنسامه حجاب .
اعتادت أن يكثر فيها القريب والحبيب ، واستوحشت من دواوين المحاكم ، وعقاقير الطبيب.
إنها بعض السمات الأصيلة في مجتمعات الصحراء ، لا سيما العربية منها ، ببساطتها وعفويتها ،وأمومتها لكل مجتمعات المدنية اللاحقة لها في الوجود ، فإذا أضيف إلى كل ذلك ما نجده في تاريخها من المكارم شجاعةً وكرماً وحفظاً للعرض ورعايةً للوشائج والأنساب ، وما نقرأه عنها من نخوة واحتشام ؛ فإننا تقف أمام سفر فريد تشتاق النفوس إلى صفائه وإنسانيته ، ولله در فتى الصحراء عنترة إذ يقول :
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها .
إنها الأرض الإنسانية الطيبة ، التي لا يحجبُ العاقلَ ما فيها من الجفوة عما فيها من الخير .
أما التكوين الآخر ، فهو ذلك التجمع الإنساني الذي لحقه التحضر والتطوير ، فانتقل من البسيط في كل شيء إلى المركب منه ، لم يعد يعمل للضروري من القوت والملبس والمأوى ، لكنه استعمل حاجات الترفه ، وأدخل إلى حياته الأدوات الكمالية ، وتفنن في العمران ، وفتح أبواباً من الفنون ، وتحوَّلَ من العادات الفردية والقبلية إلى نظام المدينة والدولة ، وأوجد المؤسسات المنظَّمة ، ووزع الوظائف بين الأفراد ، وحرّك الثروة المالية ونوّعَ مصادرها ، وأنشأ مختلف الصنائع ووسائلها .
و بحث عن العلوم وفتش عن أسباب زيادتها ، وكوَّن المؤسسة العلمية التي ترعاها وتتعهدها بالحفظ والنماء ، وانتقل من حفظ الأمن الفردي إلى حفظه بالدولة والشَرِطة والجيش.
إنه على كلٍّ قد اكتسب تطوراً لكنه - وللحقيقة نقول - خسر في الوقت نفسه كثيراً من الاستعدادات الإنسانية في مجتمع الصحراء ، فتأثرت بسبب تعقيد المآكل والمشارب صحته ، وتراجعت بسبب كدورات البيئة حيويته ، فليس الماء والهواء والشمس كما هي هناك ، ثم إنه أصبح بسبب هذا التغيير الأقل شجاعة ، والأندر كرماً ، والأبعد عن الحمِيَّة والاحتشام ( أنظر مقدمة ابن خلدون ص 134-135-136-142-460 ) .
2 – صلة الإسلام بكل من التجمعين الصحراوي والحضري :
الإسلام - وهو دين الله تعالى الذي أنزله إلى الناس كافة - لم يكن مخاطباً فرداً دون فرد ، ولا تجمعاً دون آخر، إنه رفع نداء الأمة الإنسانية الواحدة ، التي تقف في ساحة المعنى الواحد للعبودية ، متساوية بين يدي رب واحد : إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الأنبياء 92)
وليس غريباً إذاً أن نجد هذا الإسلام يعتبر كُلاً من التجمعين الإنسانيين المذكورين ، ويحترم خصوصية كل منهما فلا يلغي أحدهما ولا يدعو إلى زوال أي منهما لكنه يرتقي به إلى الكمال ويضفي عليه سمات جديدة لم تكن فيه من قبل ، ثم هو بعالميته لا يعطيه الاستقلالية المنغلقة ؛ بل يصل بينه وبين التجمع الآخر بروابط فريدة لم يُسبَق بمثلها ، محققاً تكاملاً عجيباً في أمة إنسانية واحدة ليست هي في الحقيقة إلا أسرة كبيرة قد تفرعت عن أب واحد .
2 – 1 كيف اعتبر الإسلام وجود المجتمع الصحراوي واحترم خصوصيته :
إن الإسلام مع دعوته إلى الإعمار بخطابه : ( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) ( هود 61 ) وحكاياته عن الصناعات الثقيلة : ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) الكهف{96} ، ودعوته إلى زيادة العلم : (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)(طه114)، تراه يُفرد للطبيعة حديثاً يتناغم مع أحاسيس الإنسان ، ويخص المجتمع البدوي بمخاطباتٍ تدغدغ أعماقه فيورد مفرداته التي يعيشها بكرة وعشياً بلغة جمالية بديعة ، ويصل بينها وبين حقائق توحيد الله تعالى ، لتكون النعمة موصولة بعطاء منعمها سبحانه ، واقرأ في الكتاب الكريم :
( وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )(5 -11) النحل
( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ(80-81) النحل
( أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) (17-20) الغاشية
قال بعض الأعراب، وقد سئل ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال: يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير (تفسير ابن كثير ج1 ص88).
إنها لغة قد لا نجدها في المجتمعات التي التهمتها المادية الطاغية حتى أنستها غير ما هي فيه من الاشتغال بالتقانة والوسائل الجديدة ، والآلات المستحدثة ومصادر الطاقة ، وكاد الإنسان في المجتمع الجديد يصبح آلة متحركة بين الآلات ، ومصلحةً بين المصالح .
أما الإسلام فإنه حافظ في دعوته على التوازن بين حاجة الإنسان إلى التطوير ودوام مواصلته لجذور إنسانيته وعفويةِ أصالته ، وهكذا دعا في بعض الأوقات دعوة صريحة إلى المجتمع الصحراوي للإفادة من خصوصيته : فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة أسلم أن تقصد البادية مستشفية بها حين أصابها وجع وقال لهم : يا أسلم أبدوا (عزاه في كنز العمال إلى أبي نعيم – مسند سلمة بن الأكوع )
وقال صلى الله عليه وسلم : إن زاهرا باديتنا ، ونحن حاضروه (البغوي عن أنس – كما في الكنز - الحديث رقم 8327 ، ومسند الإمام أحمد في مسند أنس بن مالك)
قال المناوي في شرح هذا الحديث : إذا تذكرنا البادية سكن قلبنا بمشاهدته (فيض القدير ، شرح الجامع الصغير – الحديث رقم 2275) ، ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم يحِنُّ إلى البادية ويشتاق إليها ، فيسكن قلبه برؤية واحد من أبنائها البررة ، فيكون – مما تقدم - معنى الاستشفاءِ بالبادية متصلاً بالجسد والنفس .
وقال المناوي في شرحه أيضاً للحديث المتقدم : إذا احتجنا متاع البادية جاء به إلينا فأغنانا عن الرحيل (فيض القدير ، شرح الجامع الصغير) ، وهو بهذا يشير إلى المجتمع البدوي الصحراوي كمصدر هام من مصادر الحاجة التي لا يستغنى عنها .
إضافة إلى ما ذكر فإن في المجتمع الصحراوي خصوصية يهتم المسلمون بها وهي خصوصيته اللغوية فها هو الإمام الشافعي رحمه الله منذ نعومة أظفاره ، يرحل إلى البادية يطلب فيها اللغة والأدب والشعر ، ويلازم هُذيلا عشر سنوات – وقيل عشرين - فيتعلم منهم لغات العرب وفصاحتها ( أنظر البداية والنهاية لابن كثير )، وقد قال مصعب الزبيري : كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الشافعي على شعر هُذيل حفظاً (معجم الأدباء" لياقوت الحموي 299:17 ، كذا في تقدمة الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة لموطأ الإمام مالك رواية محمد بن الحسن ).
وقد توهم بعض الناس أن الإسلام ألصق الكفر والنفاق بجميع سكان البادية–، آخذين هذا الحكم العام من قوله تعالى : ( الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (التوبة -97) والأعراب في اللغة سكان البادية .
ولو أنهم تابعوا التلاوة في الكتاب الكريم لوجدوا بعد آيتين قوله تعالى : وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة -99) وهذا صريح في إخراج المؤمنين من ذلك الحكم العام الواهم .
وتروي الصحابية البدوية أم سنبلة فتقول : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدية فأبين نساءُ النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذنها وقلن: إنا لا نأخذ هدية. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"خذوا هدية أم سنبلة فهي أم باديتنا ونحن أهل حضرتها .
وتروي أم المؤمنين عائشة قصة هذه البدوية فتقول : أهدت أم سنبلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبناً فلم تجده فقلت لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا أن نأكل من طعام الأعراب ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه فقال: "ما هذا معك يا أم سنبلة؟" قالت: لبن أهديته لك يا رسول الله. قال: "اسكبي أم سنبلة". فسكبَتْ فقال: "ناولي أبا بكر". ففعلت فقال: "اسكبي أم سنبلة". فسكبت قال : "فناولي عائشة" …قال: "اسكبي أم سنبلة" فسكبت فناولته رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب . تقول عائشة : ..يا رسول الله قد كنت حدثت أنك نهيت عن طعام الأعراب! فقال: "يا عائشة إنهم ليسوا بأعراب هم أهل باديتنا ونحن [أهل] حاضرتهم وإذا دعوا أجابوا فليسوا بأعراب".
(رواهما أحمد وأبو يعلى والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح - كذا في مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي - كتاب البيوع - الحديثان : 6732 - 6733)
ولما طُعِنَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأوصى الخليفة من بعده فقال : وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام . ( صحيح البخاري - باب: قصة البيعة - الحديث رقم 3497 ).
وقَالَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه : نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةَ الْعَاقِلُ، فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ (صحيح مسلم - كتاب الإيمان باب السؤال عن أركان الإسلام ).
وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين سكنوا البادية زاهر بن حرام الأشجعي ، وحازم بن حرام الجذامي ، وأبو شجرة السلمي ، وأبو قيس الجهني ، وأم سنبلة الأسلمية وغيرهم كثير (أنظر الإصابة لابن حجر) .
وما تقدم يكفي للدلالة على اعتبار الإسلام لمجتمع البادية وأبنائها ، واحترامه لخصوصيته ومزاياه .