الحركة الفكرية بالمغرب في العصر الحديث
د / أحمد إيشر خان
تمهيد:
إن الحديث عن تاريخ الحركة الفكرية في مغرب العصر الحديث هو خروج من الإطار التاريخي المعتاد والمتعارف عليه في مجال البحث باقتحام مجال جديد، أو على الأقل لم يلق العناية المستحقة التي تبرز أهميته في مسار الأمة المغربية وتاريخها.
إن الانتقال من تاريخ السياسة إلى تاريخ الفكر، هو انتقال بالضرورة إلى تاريخ الأفكار التي تحدد معالم السياسة وتتحكم فيها عبر نسق وضمن منظومة مرجعية للسياسي [حاكم، قائد، قاضي، عالم مشارك، شيخ تصوف...] الذي يصدر الأحكام أو يطبقها اعتمادا على مرجعيته الفكرية.
فلا يتحرك الفقيه ليصدر أحكاما سياسية إلا من خلال ما قرأه ودرسه وحفظه من أحكام فقهية، ولا يصدر الحاكم أحكامه إلا من خلال ما تلقاه من علوم سياسية، ومن خلال قراءاته لكتب الأحكام السلطانية والآداب السياسية، ولم يكن المتصوف وشيخ الطريقة ومريدو الزاوية يتحركون إلا اعتمادا على ما تلقوه من آداب الشيخ والمريد وكتب القوم والرقائق والمواعظ والرسائل الإخوانية، ومتداولات الفقراء.
إن دراسة الحركة الفكرية هي دراسة للجانب القوي والخفي المحرك للدولة والمجتمع والنخبة، ندرك ذلك بسهولة عند تصفحنا لكتب الفتاوى والأحكام والاستشارات المتبادلة بين السلاطين والعلماء.
ولن نكون بعيدين عن الصواب ولا مبالغين إذا قررنا بأن السياسي لا يتحرك إلا من خلال الفكري، ودليلنا على ذلك ما شهده المجتمع المغربي من تحركات وثورات وردود أفعال ـ كانت عنيفة أو مسالمة ـ بسبب فتوى أو رأي أو أحكام أو خطب، والنماذج التاريخية عندنا حاضرة بقوة، فلم يكن نجاح تأسيس الدولة المرابطية إلا بواسطة الفقه المالكي ، والدولة الموحدية إلا بواسطة الفكر المهدوي، والإمارة الدلائية إلا بواسطة الفكر الصوفي…الخ، كما شهد المغرب ثورات متعددة بسبب فتاوي فقهية لفقهاء أو بسبب أحكام لشيوخ التصوف، أو مراسلات للدجالين والمتنبئين ومدعي المهدوية ـ ابن أبي محلي وبوحمارة نموذجين ـ فطالما رد الفقيه أحكام الحكام وأبطل أحكامهم التنفيذية [مكوس، ضرائب، وسق..]. وقد كان الصراع واضحا في تاريخ المغرب الحديث بين فقهاء المالكية وفكر المتصوفة، ففي الوقت الذي ساند فيه الفقهاء – بفتواهم- استمرار الملك في الدولة الوطاسية بدعوى عدم شرعية نزع البيعة من الأعناق بدون موجب شرعي، نجد شيوخ التصوف قد تجاوزوهم بعلمهم – الذي هو علم أذواق لا علم أوراق- ليساندوا أمير جديد تتوفر فيه شروط الصلاح والجهاد. بمعنى أن الصراع كان بين الفقه والسلوك، لذلك سنلاحظ انتشار فكر الزاوية بدل فكر المدرسة والمسجد.
1ـ مفهوم الحركة الفكرية:
قد تتعدد مفاهيم الحركة الفكرية، لكن يمكن إجمالها في أنها العمل المرتبطة بالعقل، أو كل الإنتاج الذي استعمل فيها الفكر والتدبر والنظر بشرط أن تكون هذه الأفكار متداولة بين العلماء ومتنقلة في الوسط الاجتماعي، حيث تشكل الهم المشترك وحديث المرحلة، وقد تكون هذه الأفكار متنوعة أو من جنس واحد مثل الحركة المرتبطة بالعلوم والسياسة أو بعلم التاريخ، لكن المقصود هنا هو الحركة الفكرية بكل أشكالها بشرط التداول والتدوين، ويمكن أن ندخل فيها أيضا الحركة الفكرية الشعبية من خلال الاهتمام بالأدب الشعبي، وهو ما فعله الكونت هانري دوكاستري عندما درس رباعية سيدي عبد الرحمان المجذوب، والعلامة محمد الفاسي في كتابه معلمة الملحون، والدكتور عباس الجراري في كتابه القصيدة.
أما العصر الحديث فنقصد به المغرب في عهد الدولتين السعدية والعلوية إلى عهد السلطان مولاي الحسن، باعتبار أن هذه الفترة شهدت تطورا ملموسا على مستوى النشاط الفكري والتراكم المعرفي ، بالإضافة إلى توفر المصادر والمراجع والوثائق المساعدة على الدراسة والمقارنة والتحليل بسبب طول المرحلة وقربها الزمني، وقد ساعدها في ذلك انحصار الثقافة العربية الإسلامية بسبب هيمنة الأتراك في الشرق الإسلامي، حيث أصبح المغرب قبلة للعلماء والمفكرين الذين وجدوا التشجيع لدى سلاطين الدولة المغربية.