الجذور الدينية في المجتمع اليهودي، وأثرها في الموروث الأيديولوجي للأصولية الصهيونية
د. عادل محمد عايش الأسطل
سنتناول في هذا المقال – المختصر- الجذور التاريخية للحركات والأحزاب الدينية اليهودية على مر العصور، ثم نتعرض لمفهوم الأحزاب الدينية وتطورها التاريخي والمؤسسي، قبل وبعد قيام دولة(إسرائيل)، ودراسة بعضاً من جوانب الأصولية الدينية، ومراحلها التي مرًت بها، وستتوضح في السياق ذاته، العلاقة والقواسم المشتركة والاختلافات، بين مختلف الأحزاب والحركات الدينية في(إسرائيل).
ومن هنا يعتبر هذا المقال – مدخلاً تاريخياً للبحث والتحري– من حيث التركيز على الأحزاب الدينية في المجتمع الإسرائيلي، بغية الوقوف على طبيعة هذه الأحزاب، والبيئة التي ساعدت على ظهورها وتطورها، وصعودها الفكري والسياسي، وعلاقتها بالصهيونية، إلى أن أصبحت مكوناً رئيسياً في النظام السياسي الإسرائيلي، باعتبارها قوة دينية وسياسية، لا يستهان بها في عملية صنع السياسة الإسرائيلية الداخلية والخارجية على حد سواء.
ولقد ضربت الأصولية الدينية جذورها، بين الطوائف اليهودية منذ القدم، وتطورت تباعاً بفعل تغيرات الزمان والمكان والظروف السياسية والاجتماعية، وتبعاً لتطور معتقدات ورؤى تلك الطوائف، خلال العصور القديمة والوسطى والحديثة وهو ما يمكن للباحث أن يشير إليها على النحو التالي:
- التيارات الدينية اليهودية في العصور القديمة
هناك ما لا يقل على 15 تياراً دينياً يهودياً متميزاً، منهم ما هو بائد ومنهم ما هو موجود. وكانت قد وجدت منذ زمن تيه بني إسرائيل، وبعدما رجع النبي موسى عليه السلام إلى قومه، فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم، حيث صبأ أكثرهم عن الدين الذي جاء به موسى، والذي أمرهم بإتباعه، فلما رأى منهم ذلك هاله الأمر وامتلأ غيظاً، وألقى ما كان بيده من الألواح الإلهية، وبا يجمعبينهم ويعيدهم إلى الجادة، فمنهم من عاد إلى دين موسى ومنهم من انسلخ عنه، ومن هنا تفرقت أغلب الجماعات وأضحت في فرق وتيارات يهودية، كأول التفرقات بين هذه الجماعات، والتي تلتها تفرقات أخرى، حسب المناخات الدينية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في البلدان والممالك، التي انتشروا فيها، ومن تلك التيارات القديمة، طائفة(الصدوقيين (Saducees وهم من أولاد هارون، وأتباع صادوق بن أخيطوب، الذين توارثوا الولاية على(الهيكل)، واعتبرت هذه الفرقة، من أهم الفرق اليهودية، التي ظهرت في فلسطين في ذلك الزمان، وكانت تتمتع بنفوذ سياسي كبير داخل جماعتها الخاصة، وذلك لتقربها من السلطة الحاكمة، بالإضافة إلى نفوذها الديني، الذي آل إليها، بسبب إشرافها على خدمة ما تعتقد به وهو(الهيكل).
وكان احتفظ الصدوقيون، طوال حياتهم، بتميزهم داخل الإمبراطوريات المختلفة، ومنها: البطلمية والسلوقية والرومانية، حيث اندمجوا مع أثرياء اليهود واتبعوا الحضارة الإغريقية زمن الأسرة الحشمونية بعد الثورة المكابية ـ التي خضعت للحكم اليهودي في الحقبة اليونانية ـ وكانت الطائفة تعتبر جماعة وظيفية وسيطة، تعمل لصالح الإمبراطورية الحاكمة، وتساهم في عملية استغلال الجماعات اليهودية، وفي جمع الضرائب، إلى أن انتهى دورها بدمار(الهيكل الثاني) عام 70م ـ الذي بناه الملك(هيرودوس الكبير) الذي وُلد المسيح في زمنه ـ على يد القائد الروماني( تيطس Taitse) بأمر من المسيح.
وظهرت جماعة أخرى، في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد، ضمت عدداً من العلماء ورجال الدين والأتباع، عرفت باسم(جماعة الفريسيين Pharisees)، الذين تلقّوا العلم بطرق ذاتية، وكانت شرعيتهم تستند إلى عملهم وتقواهم، لا إلى مكانة يتوارثونها، وهي فرقة مناوئة للصدوقيين، وكانوا يلقبون أيضا بلقب(حفيريم חברים)، أي(الرفاق أو الزملاء). وكان قسم منهم، من أتباع )شماي שמיי(ـ من بني إسرائيل ـ الذين أشار إليهم المسيح عليه السلام.
والفريسيون، فرقة دينية لها أبعادها السياسية، وقد ظهرت نتيجة الهبوط التدريجي لمكانه الكهنوت اليهودي، بتأثير الحضارة الهيلينية، التي تعلي من شأن الحكيم على حساب الكاهن. ويُرجع التراث اليهودي جذورهم، إلي القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد. ويعد الفكر الفريسي، أهم تطور في اليهودية بعد تبني عبادة (يهوه יהוה)، حيث كان جوهر برنامجهم يتلخص في إيمانهم، بأنه يمكن عبادة الخالق في أي زمان وفي أي مكان، وليس بالضرورة في حرم (الهيكل) المختلف على مكان وجوده.
وفي القرن الثاني قبل الميلاد ظهرت فرقة(الأسينيين Essences)، وهي جناح متطرف انشق عن جماعة الفريسيين، وقد عاش أفرادها حياةً اشتراكية، في الطعام والعمل والمسكن والأموال، وكانوا نباتيين، لا يأكلون اللحوم، ويكرهون الزواج، وقد اهتموا بالاتصال الصوفي بالله عن طريق الصلاة والتأمل، وآمنوا بالحياة بعد الموت، والملائكة والشياطين، وبشّروا بقدوم المسيح ليقيم مملكة اشتراكية سماوية علي الأرض. وكان الفكر الأسيني متأثراً بالفكر الهيليني وأفكار فيثاغورث، وبآراء البراهمة والبوذيين، التي وصلت إلى فلسطين بطرق متعددة كالتجارة والغزو وغير ذلك.
وهناك جماعات وتيّارات دينية أخرى منها: عصبة(الخناجر Sicaei)، وهي عصبة دينية متطرفة، وتركزت نشاطاتها في محاربة اليهود المتراخين في تطبيق الشريعة اليهودية. وهناك عصبة الفقراء)الإبيونيين Ebionites)، وهي فرقة متصوفة تسعى إلى النفع العام مع ما يتميزون به من مسالمة، آمنوا بعيسى عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله، عاشوا حياة الزهد والقناعة، ردحاً من الزمن. إلى أن دخل الإمبراطور الروماني(تيطس) في المسيحية وأدخل معه الطقوس الوثنية، ووقعوا بين عدوين ضاريين، اليهودية على تعاليم التلمود، والنصرانية على تحريف(بولس) فكان في ذلك نهايتهم.
وهناك فرق أخرى قليلة العدد مثل، الطائفة السامرية، نسبة إلى مدينة السامرة (نابلس)، وهي تعد أصغر طائفة دينية في العالم. دخلوا فلسطين قبل حوالي 3600 عاماً قادمين من صحراء سيناء، حيث أسسوا مملكة، ما لبثت أن انقسمت إلى مملكتين، واحدة يهودية في الجنوب وأخرى سامرية في الشمال. ويُشار إلى السامريين في التلمود بـ(الغرباء) وهم يُطلقون على أنفسهم(بنو إسرائيل أو بنو يوسيف)، على اعتبار أنهم من نسل يُوسف، وأحفاد موسى عليهما السلام. وهم ليسوا صهاينة، ويعتبرون جبل صهيون قاعدة الكفر. ويعتبرون نابلس هي مدينتهم المقدسة وخاصةً جبل(جيرزيم) المشرف على المدينة. واتسم كهنتها بحفظة الشرعية، باعتبارهم من سلالة السامرة الذين ولدوا في فلسطين.