[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
استراتيجية الاستعمار الفرنسي في الجزائر: الأدوات والأهداف 1830 ـ 1870
لكاتب: محمد دادة (*)
أكثر من ثلاثة قرون ظلت الجزائر قوة بحرية تسيطر على غربي البحر الأبيض المتوسط، وفي سنة 1830 بعثت فرنسا بحملة عسكرية ضدها نتج عنها استيلاء الجيش الفرنسي على مدينة الجزائر، ثم واصل حروبه إلى أن أعلنت الجزائر جزءاً من فرنسا ، وقد ساهم في أسباب هذه الحملة كل من الظروف العالمية والحالة الداخلية في فرنسا والجزائر معاً، وسواء كانت هذه الأسباب سياسية أو اقتصادية فإنها أدت بالملك الفرنسي إلى أن يخطط الحملة ضد دولة مستقلة تقع على الشاطئ الأخر من البحر الأبيض المتوسط.
وفي تحليله آليات الاستعمار الفرنسي بالجزائر خلص «جوليان» إلى استنتاج قوامه أن أغلب رجال السياسة(1) كانوا على وفاق تام حول مشروع الاحتلال، وكان ذلك واضحاً في ممارساتهم وكتاباتهم وتدخلاتهم، لأن مسألة الاستيلاء على أرض الجزائر، كانت لب السياسة الفرنسية تجاه شمال إفريقية آنذاك، فالجزائر بموقعها الاستراتيجي الحساس، وإمكانياتها الاقتصادية، كانت تراود مشاعر أصحاب رؤوس الأموال والأوساط التجارية، ولا سيما منهم التجار المرسليين الذين ساهموا في توجيه «شارل العاشر» على اتخاذ قرار الحملة، لأن ذلك سيفتح أمامهم أسواقاً جديدة لتجارتهم، وكان قد أقلقهم استمرار الحصار البحري على الجزائر(2).
وهكذا اتفق الاستعماريون والبرجوازيون على غزو الجزائر، واستغلال خيراتها، ونقل الفائض من سكان فرنسا إليها، ولم تتردد الدولة الاستعمارية في الكشف عن حقيقة أهدافها الاستراتيجية، فعلمت منذ البداية على استخدام وسائل فعالة لتحقيق هذا الهدف، وللإحاطة بهذه الوسائل العملية التي تدخل ضمن اهتماماتها الاستراتيجية، سنكتفي بدراسة ما يأتي:
1- الجهد العسكري الفرنسي وحرب الإبادة.
2- دور المكاتب العربية.
3- أسلوب التفرقة وإذكاء الصراع الداخلي.
أولا: الجهد العسكري الفرنسي وحرب الإبادة:
ركزت الدولة الفرنسية على دعاية مفادها أن أرض الجزائر كانت شبه فارغة ويعمها التخلف، وهذا الخطاب هو الذي رسمه دعاة الاستعمار في صياغة قناعة مشتركة لدى العالم الأوربي قوامه أن الحضارة الغربية باعتبارها مشروعا حضاريا يساعد الشعوب المتخلفة على الارتقاء إلى درجة المدنية في تجلياتها العامة، طالما أن الاستعمار بتعبير «ألبير باييه» (Albert Bayet) « يعد مشروعاً حين يحمل الشعب الذي يحمل كثيراً من الأفكار والعواطف التي من شأنها أن تغني شعوباً أخرى، حينذاك لا يصبح الاستعمار حقاً فحسب بل واجباً»(3).
إننا لن نعدد الكتابات التي وظفت لتأكيد هذه السياسة الاستعمارية، وغرضنا أن نبين ما ورد في خطاب الاحتلال لم يكن يهدف سوى إلى تسويغ ظاهرة الاستعمار، ويكفي هنا أن نعتمد على ما قاله «مصطفى الأشرف» كرد على: هؤلاء، حيث يقول: «وجدت فرنسا وجهاً لوجه أمام مجتمع حسن التنظيم، له حضارته الخاصة الشبيهة إلى حد ما بحضارات البحر الأبيض المتوسط، وهذا المجتمع لا يخلو من عيوب، ولكنه حبه للحرية وتمسكه بالأرض، واتحاد كلمته، وأصالة ثقافته، وصدق وطنيته، وغزارة موارده الطبيعية، ونبل مثله العليا، كل ذلك أعطى البرهان الساطع والدليل القاطع على أصالته....»(4).
ويضيف الكاتب نفسه، وهو يرد على كلام بوجولا(5): «إن الإنسان إذ يسمع هذه العبارات «الرائعة» لا يسعه إلا أن يعتقد بأن صاحبها يتحدث عن شعب متوحش متجرد من الأخلاق والدين»(6).
لقد كانت الحركة الاستعمارية تهدف إلى انتزاع أراضي الجزائريين ومنحها للمهاجرين الأوروبيين، ولكن منذ البداية، أدرك المستعمرون الأوائل، أن هذه العملية ليست بالأمر السهل، ولا سيما أنهم اكتشفوا بأنفسهم في الميدان أن السكان كانوا غير مستعدين للخضوع لهم، ولهذا كان اللجوء إلى التقتيل الجماعي والتدمير والتخريب أمرا ضروريا لتنفيذ أهدافهم الإستراتيجية الاستعمارية، وهو طرد السكان الأصليين والاستحواذ على أراضيهم، وكانت هذه العملية تتطلب تعبئة إمكانيات مالية وعسكرية ضخمة لتحقيق المشروع الاستعماري الاستيطاني في الجزائر.
إن الأعمال الشنيعة التي اقترفها جنرالات فرنسا وجنود الاحتلال خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر ضد الجماعات السكانية المحلية، أصبحت اليوم معروفة لدى المؤرخين والكتاب.
غير أنه من الواجب تذكيرها، ولا سيما الأعمال الإجرامية المنظمة التي ارتكبت قبل عهد «بيجو» وبعده أو في زمان حكمه، والتي تميزت من غيرها نظراً لعظم الوسائل التي كانت بيده، وسائل كانت واسعة المفعول في القضاء على اقتصاد الجزائر بصفة لا تسمح لهذا البلد بالنهوض قبل عشرات من السنوات، ولا بالنهوض على الإطلاق في بعض مناطق الاحتلال، ومما لا شك فيه أن التوازن السكاني قد اختل إما بسبب المجازر المنظمة وإما بسبب الجذب والمجاعات التي عقبتها.
وهكذا لم تتماطل فرنسا في تنفيذ أهدافها منذ الوهلة الأولى من نزول قواتها في مدينة الجزائر، فقد سارع «دوبرمون» إلى الاستيلاء على خزينة الجزائر الموجودة في القصبة آنذاك(7) وترك جنوده ينهكون الأعراض ويسلبون المتاع ويريقون الدماء ويهدمون المنازل والمحلات بالرغم من تعهد «دوبرمون» بشرفه، أن يحافظ على حرية الدين وعلى أملاك السكان وتجارتهم وصناعتهم وأن يحترم نساءهم وحرماتهم.
كان الجميع يظن بأن أمة متحضرة مثل الأمة الفرنسية لا يمكن أن تنكث العهد، ولكن سرعان ما انتشر الجيش الفرنسي في مدينة الجزائر، وبدأ يعث فيها فساداً. ونستشهد بمؤرخ الجيش الفرنسي في الجزائر، وهو بول أزان (Paul Azan) يصف لنا حالة هذا الجيش خلال شهر تموز سنة 1830، فيقول: «إن الجنود ارتكبوا أعمالا تخريبية حول مدينة الجزائر، فخربوا الأحواش وقطعوا الحدائق، وخلعوا أعمدة المنازل، وثقبوا أنابيب المياه، وهدموا سواقي المياه لكي يسقوا حيواناتهم ...»(.
ويتحدث «روزي» عن سهل المتيجة الذي تعرض للتخريب، عندما قام الجند بتكسير وحرق شجر الزيتون لتوسيع رحبتهم. وكان «روزي» نفسه يتصور مستقبل الاستعمار الاستيطاني في أخصب أراضي المتيجة على الطريقة الآتية: «سوف يلزمنا الحاجة إلى إبادة جميع السكان الساكنين في جبال بني مناد وشنوة ...»(9).
والحق أن ذلك لم يكن افتراضا، ففي عام 1832 قام الجنرال «دي روفيغو» (Le Duc De Rovigo)، بمجزرة رهيبة، إذ أباد قبيلة العوفية بمجرد اتهام بعض أفرادها بالسرقة، في حين كان اللصوص ينتمون إلى قبيلة أخرى، وقد حدثت هذه الإبادة عندما اجتاحت فرقة عسكرية في الصباح الباكر على قبيلة العوفية في سهل متيجة، وفاجأهم الجنرال وهم نائمون في خيامهم، فذبحهم دون مقاومة من أحد، فكل الأحياء كان مصيرهم الموت دون تمييز بين الصغير والكبير وبين الذكر والأنثى(10).
ومن هنا تتضح أهداف الإخضاع بالعنف والقوة إلى درجة الإبادة منذ البداية، وبدأت الجولات المسلحة التي تعبر عن أصدق صعوبات الاحتلال يوم أدرك الجزائريون نوايا فرنسا الاستعمارية، بعد سقوط الحكم المركزي، وظهور الفراغ السياسي، وعجز المدن عن صنع قيادة جديدة، وكانت القيادات الجديدة قد ظهرت في الأرياف لمواجهة القوات الفرنسية، أمثال علي السعدي، والحاج محمد بن زعموم، والأمير عبد القادر، وآخرين من زعماء الطرق الصوفية وزعماء الأعراش.
ولكن هذا الوضع لا يمكن أن يدوم طويلاً، فالفرنسيون أرادوا أن يخرجوا من الحصار والتوجه إلى مناطق السهول. ويبدو أن استمرار المقاومة الريفية، شكل عائقاً أمام السلطات الاستعمارية التي كانت تريد المزيد من الأراضي فكان إرسال «بيجو» إلى الجزائر في سنة 1840، دليلا على إسرار الحكومة الفرنسية على تسريع تنفيذ مشروعها الاستيطاني، وهو الذي كان يعد الغزو طريقة حربية مشروعة وضرورية وذلك بتخريب وتدمير القرى التي يقطنها السكان، حيث يقول: «يجب أن نقوم في إفريقية بحملة كبيرة شبيهة بما كان يفعل الأفرنج وما كان يفعل القوط....»(11).
وفي الواقع أن «بيجو» انتقد الوسائل والأساليب السابقة، واعتبرها أساليب ضعيفة ضد السكان، وكان حكم «بيجو» يمثل الصورة القاسية، حيث تضمن مخططه عدة أساليب، من بينها الإضرار بالسكان في أرزاقهم كالمحاصيل والمزارع والمواشي، والمطامير، فكل شيء يقف في طريق الوصول إلى هدفه كان يجب أن يزول مهما كانت قيمته.
وقد نجح في إضعاف المقاومة الجزائرية التي كان يقودها الأمير عبد القادر، الذي أرغم على التسليم بعد عدة شهور فقط من مغادرة «بيجو» للجزائر عام 1847(12).
وكان إسرار السكان على التمسك بأراضيهم، يشكل عائقا أمام السلطات الاستعمارية التي كانت تريد المزيد من الأراضي، وكان الضباط الكبار يتسابقون للوصول إلى أهدافهم المقررة، وذلك باستعمال مكثف وأعمى لعملية الإبادة الجماعية للسكان المحليين، ويكفي للتدليل على ما نقوله، إننا نورد فيما يأتي اعترافات الجنرال «كافينياك» (Cavaignac) حول ما فعله لإبادة قبيلة بني صبيح عام 1844، حيث يقول: «لقد تولى الجنود جمع كميات هائلة من أنواع الحطب، ثم كدسوها عند مدخل المغارة التي حملنا قبيلة أولاد صبيح على اللجوء إليها بكل ما تملك من متاع وحيوانات، وفي المساء أضرمت النيران وأخذت كل التدابير، لكي لا يتمكن أي كان من الخروج منها حيا»(13).
وقد بين ذلك الأسلوب «توكفيل» في تقرير له عام 1841، وهو يتحدث عن الوسائل العملية التي يمكن استخدامها في إخضاع القبائل الجزائرية، فيقول: «يجب أن ندمر تجارتهم وأن نمنع عنهم كل المبادلات التجارية، وبعد ذلك تأتي الوسيلة الثانية وهي تخريب البلاد، وفي اعتقادنا أن الحرب ضرورية في تدمير البلاد سواء بإتلاف المحاصيل في أوقات الحصاد، أو في كل الأوقات التي تتطلب الغارات المباغتة والسريعة من أجل اختطاف العباد ونهب قطعان الغنم والبقر»(14).
وهكذا يظهر جلياً أن خطاب «توكفيل» كان يتماشى مع خطاب بناة الاستعمار، فهو في الختام يطمئن قادة فرنسا على أن تلك الأساليب والمغامرات العسكرية تعد مفخرة للدولة الفرنسية، وبتعبيره، وهو ينصح قادة العنف والتقتيل: «ألا تنشغلوا بأمجادكم الشخصية، وأن يؤدي كل واحد منكم واجبه بإخلاص لبلاده، إن فرصة الظهور لكل واحد منكم تكمن في القيام بأعمال وحشية ودموية»(15).
كانت فرنسا في حاجة إلى المزيد من الجنود قصد تنفيذ إستراتيجيتها الاستعمارية في الجزائر، ولهذا لم تكتف بقوتها العددية، بل راحت تستعين بالمجندين أو المحاربين من مختلف الجنسيات الأوروربية وكذلك بالمجندين الجزائريين لتأسيس «الجيش الإفريقي».
كان عدد هؤلاء المجندين الجزائريين في سنة 1844 حوالي 9.654 مقاتلاً من المجموع العام الذي بلغ 80.862 جندياً، وفي سنة 1859 بلغ عدهم 13.259 من مجموع 83.870 جندياً، أي بنسبة (16%)، أما الجيش الفرنسي، فكان عدده بالتقريب 100 ألف جندي فيما بين 1846 و1847 ، وأكثر من 80 ألف جندي في سنتي 1857 و 1864، وأكثر من 70 ألف في أواخر سنة 1870.(16)
ونلاحظ أن العدد التقريبي كان يتغير وفق الظروف الحربية، واشتداد المقاومة الجزائرية، وحسب «فارني» (Warnier)، فإن الجندي كان يكلف حوالي 1.000 فرنك في السنة، وهذا ما كلف خزينة الدولة الاستعمارية أكثر من مليارين ومائتي مليون فرنك(17).
تلك هي جوانب من الجهد الحربي الفرنسي، وأساليبه في الإبادة ولم تقتصر السلطات الاستعمارية على ذلك، بل عمدت على إنشاء في الوقت نفسه المكاتب العربية التي ستكون الوسيلة الأخرى التي ستستخدمها الإدارة العسكرية لإخضاع السكان.
ثانيا: دور المكاتب العربية:
عندما حاول الفرنسيون أن يتوسعوا في الجزائر ويبسطوا نفوذهم في مختلف المناطق، واجهتهم صعوبات كثيرة من جراء رفض وامتناع الجزائريين من التعاون معهم ومهادنتهم، وكانت قد طرحت مشكلة إدارة السكان بعد فترة قصيرة من الاحتلال للقيادة العسكرية التي كانت تنقصها معلومات حول الأحوال العامة في الجزائر، ولكن نظراً لنقص الخبرة، تركت القيادة هذه الأعمال وأعطيت مهمة مراقبة السكان لبعض الشخصيات المحلية ذات النفوذ الكبير، وقد تبين بعد ذلك أن هذه الشخصيات المختارة لم تقم بدورها كاملاً في تزويد الإدارة العسكرية بالمعلومات الضرورية، ولهذا قررت السلطات الاستعمارية إنشاء هيئة تتكلف بجمع المعلومات عن الجزائريين، وجعل هذه الهيئة عبارة عن جسر يربط بين الفرنسيين وبين الجزائريين.
تأسست هذه الهيئة في عام 1833، وسميت «بالديوان العربي» وكان أول شخص عين على رأسها، هو النقيب «لاموريسيير» (Lamoricière)، الذي كان يجيد اللغة العربية. وقد أعطى هذا الضابط دفعاً قوياً لهذه المصلحة، وحقق نجاحاً كبيراً، وأصبح مكتبه وسيلة فعالة في التقاط المعلومات وجمعها والدعاية للاستعمار.
وفي عام 1837 تحولت هذه الهيئة إلى «إدارة الشؤون العربية». وكانت هذه الهيئة مسؤولة عن «تسهيل عملية الاتصال برؤساء العشائر والتفاوض معهم، وإقناعهم بقبول مبدأ التعاون مع فرنسا مقابل التزام هذه الأخيرة باحترام أساليب عملهم والعادات والتقاليد الموجودة عندهم وتوفير الأمن والطمأنينة في مناطق نفوذهم وحماية مصالحهم»(18)، ومع ذلك، فإن عمل هذه الهيئة مستقبلا لا يؤكد على هذا الأمر على الإطلاق.
استراتيجية الاستعمار الفرنسي في الجزائر: الأدوات والأهداف 1830 ـ 1870
لكاتب: محمد دادة (*)
أكثر من ثلاثة قرون ظلت الجزائر قوة بحرية تسيطر على غربي البحر الأبيض المتوسط، وفي سنة 1830 بعثت فرنسا بحملة عسكرية ضدها نتج عنها استيلاء الجيش الفرنسي على مدينة الجزائر، ثم واصل حروبه إلى أن أعلنت الجزائر جزءاً من فرنسا ، وقد ساهم في أسباب هذه الحملة كل من الظروف العالمية والحالة الداخلية في فرنسا والجزائر معاً، وسواء كانت هذه الأسباب سياسية أو اقتصادية فإنها أدت بالملك الفرنسي إلى أن يخطط الحملة ضد دولة مستقلة تقع على الشاطئ الأخر من البحر الأبيض المتوسط.
وفي تحليله آليات الاستعمار الفرنسي بالجزائر خلص «جوليان» إلى استنتاج قوامه أن أغلب رجال السياسة(1) كانوا على وفاق تام حول مشروع الاحتلال، وكان ذلك واضحاً في ممارساتهم وكتاباتهم وتدخلاتهم، لأن مسألة الاستيلاء على أرض الجزائر، كانت لب السياسة الفرنسية تجاه شمال إفريقية آنذاك، فالجزائر بموقعها الاستراتيجي الحساس، وإمكانياتها الاقتصادية، كانت تراود مشاعر أصحاب رؤوس الأموال والأوساط التجارية، ولا سيما منهم التجار المرسليين الذين ساهموا في توجيه «شارل العاشر» على اتخاذ قرار الحملة، لأن ذلك سيفتح أمامهم أسواقاً جديدة لتجارتهم، وكان قد أقلقهم استمرار الحصار البحري على الجزائر(2).
وهكذا اتفق الاستعماريون والبرجوازيون على غزو الجزائر، واستغلال خيراتها، ونقل الفائض من سكان فرنسا إليها، ولم تتردد الدولة الاستعمارية في الكشف عن حقيقة أهدافها الاستراتيجية، فعلمت منذ البداية على استخدام وسائل فعالة لتحقيق هذا الهدف، وللإحاطة بهذه الوسائل العملية التي تدخل ضمن اهتماماتها الاستراتيجية، سنكتفي بدراسة ما يأتي:
1- الجهد العسكري الفرنسي وحرب الإبادة.
2- دور المكاتب العربية.
3- أسلوب التفرقة وإذكاء الصراع الداخلي.
أولا: الجهد العسكري الفرنسي وحرب الإبادة:
ركزت الدولة الفرنسية على دعاية مفادها أن أرض الجزائر كانت شبه فارغة ويعمها التخلف، وهذا الخطاب هو الذي رسمه دعاة الاستعمار في صياغة قناعة مشتركة لدى العالم الأوربي قوامه أن الحضارة الغربية باعتبارها مشروعا حضاريا يساعد الشعوب المتخلفة على الارتقاء إلى درجة المدنية في تجلياتها العامة، طالما أن الاستعمار بتعبير «ألبير باييه» (Albert Bayet) « يعد مشروعاً حين يحمل الشعب الذي يحمل كثيراً من الأفكار والعواطف التي من شأنها أن تغني شعوباً أخرى، حينذاك لا يصبح الاستعمار حقاً فحسب بل واجباً»(3).
إننا لن نعدد الكتابات التي وظفت لتأكيد هذه السياسة الاستعمارية، وغرضنا أن نبين ما ورد في خطاب الاحتلال لم يكن يهدف سوى إلى تسويغ ظاهرة الاستعمار، ويكفي هنا أن نعتمد على ما قاله «مصطفى الأشرف» كرد على: هؤلاء، حيث يقول: «وجدت فرنسا وجهاً لوجه أمام مجتمع حسن التنظيم، له حضارته الخاصة الشبيهة إلى حد ما بحضارات البحر الأبيض المتوسط، وهذا المجتمع لا يخلو من عيوب، ولكنه حبه للحرية وتمسكه بالأرض، واتحاد كلمته، وأصالة ثقافته، وصدق وطنيته، وغزارة موارده الطبيعية، ونبل مثله العليا، كل ذلك أعطى البرهان الساطع والدليل القاطع على أصالته....»(4).
ويضيف الكاتب نفسه، وهو يرد على كلام بوجولا(5): «إن الإنسان إذ يسمع هذه العبارات «الرائعة» لا يسعه إلا أن يعتقد بأن صاحبها يتحدث عن شعب متوحش متجرد من الأخلاق والدين»(6).
لقد كانت الحركة الاستعمارية تهدف إلى انتزاع أراضي الجزائريين ومنحها للمهاجرين الأوروبيين، ولكن منذ البداية، أدرك المستعمرون الأوائل، أن هذه العملية ليست بالأمر السهل، ولا سيما أنهم اكتشفوا بأنفسهم في الميدان أن السكان كانوا غير مستعدين للخضوع لهم، ولهذا كان اللجوء إلى التقتيل الجماعي والتدمير والتخريب أمرا ضروريا لتنفيذ أهدافهم الإستراتيجية الاستعمارية، وهو طرد السكان الأصليين والاستحواذ على أراضيهم، وكانت هذه العملية تتطلب تعبئة إمكانيات مالية وعسكرية ضخمة لتحقيق المشروع الاستعماري الاستيطاني في الجزائر.
إن الأعمال الشنيعة التي اقترفها جنرالات فرنسا وجنود الاحتلال خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر ضد الجماعات السكانية المحلية، أصبحت اليوم معروفة لدى المؤرخين والكتاب.
غير أنه من الواجب تذكيرها، ولا سيما الأعمال الإجرامية المنظمة التي ارتكبت قبل عهد «بيجو» وبعده أو في زمان حكمه، والتي تميزت من غيرها نظراً لعظم الوسائل التي كانت بيده، وسائل كانت واسعة المفعول في القضاء على اقتصاد الجزائر بصفة لا تسمح لهذا البلد بالنهوض قبل عشرات من السنوات، ولا بالنهوض على الإطلاق في بعض مناطق الاحتلال، ومما لا شك فيه أن التوازن السكاني قد اختل إما بسبب المجازر المنظمة وإما بسبب الجذب والمجاعات التي عقبتها.
وهكذا لم تتماطل فرنسا في تنفيذ أهدافها منذ الوهلة الأولى من نزول قواتها في مدينة الجزائر، فقد سارع «دوبرمون» إلى الاستيلاء على خزينة الجزائر الموجودة في القصبة آنذاك(7) وترك جنوده ينهكون الأعراض ويسلبون المتاع ويريقون الدماء ويهدمون المنازل والمحلات بالرغم من تعهد «دوبرمون» بشرفه، أن يحافظ على حرية الدين وعلى أملاك السكان وتجارتهم وصناعتهم وأن يحترم نساءهم وحرماتهم.
كان الجميع يظن بأن أمة متحضرة مثل الأمة الفرنسية لا يمكن أن تنكث العهد، ولكن سرعان ما انتشر الجيش الفرنسي في مدينة الجزائر، وبدأ يعث فيها فساداً. ونستشهد بمؤرخ الجيش الفرنسي في الجزائر، وهو بول أزان (Paul Azan) يصف لنا حالة هذا الجيش خلال شهر تموز سنة 1830، فيقول: «إن الجنود ارتكبوا أعمالا تخريبية حول مدينة الجزائر، فخربوا الأحواش وقطعوا الحدائق، وخلعوا أعمدة المنازل، وثقبوا أنابيب المياه، وهدموا سواقي المياه لكي يسقوا حيواناتهم ...»(.
ويتحدث «روزي» عن سهل المتيجة الذي تعرض للتخريب، عندما قام الجند بتكسير وحرق شجر الزيتون لتوسيع رحبتهم. وكان «روزي» نفسه يتصور مستقبل الاستعمار الاستيطاني في أخصب أراضي المتيجة على الطريقة الآتية: «سوف يلزمنا الحاجة إلى إبادة جميع السكان الساكنين في جبال بني مناد وشنوة ...»(9).
والحق أن ذلك لم يكن افتراضا، ففي عام 1832 قام الجنرال «دي روفيغو» (Le Duc De Rovigo)، بمجزرة رهيبة، إذ أباد قبيلة العوفية بمجرد اتهام بعض أفرادها بالسرقة، في حين كان اللصوص ينتمون إلى قبيلة أخرى، وقد حدثت هذه الإبادة عندما اجتاحت فرقة عسكرية في الصباح الباكر على قبيلة العوفية في سهل متيجة، وفاجأهم الجنرال وهم نائمون في خيامهم، فذبحهم دون مقاومة من أحد، فكل الأحياء كان مصيرهم الموت دون تمييز بين الصغير والكبير وبين الذكر والأنثى(10).
ومن هنا تتضح أهداف الإخضاع بالعنف والقوة إلى درجة الإبادة منذ البداية، وبدأت الجولات المسلحة التي تعبر عن أصدق صعوبات الاحتلال يوم أدرك الجزائريون نوايا فرنسا الاستعمارية، بعد سقوط الحكم المركزي، وظهور الفراغ السياسي، وعجز المدن عن صنع قيادة جديدة، وكانت القيادات الجديدة قد ظهرت في الأرياف لمواجهة القوات الفرنسية، أمثال علي السعدي، والحاج محمد بن زعموم، والأمير عبد القادر، وآخرين من زعماء الطرق الصوفية وزعماء الأعراش.
ولكن هذا الوضع لا يمكن أن يدوم طويلاً، فالفرنسيون أرادوا أن يخرجوا من الحصار والتوجه إلى مناطق السهول. ويبدو أن استمرار المقاومة الريفية، شكل عائقاً أمام السلطات الاستعمارية التي كانت تريد المزيد من الأراضي فكان إرسال «بيجو» إلى الجزائر في سنة 1840، دليلا على إسرار الحكومة الفرنسية على تسريع تنفيذ مشروعها الاستيطاني، وهو الذي كان يعد الغزو طريقة حربية مشروعة وضرورية وذلك بتخريب وتدمير القرى التي يقطنها السكان، حيث يقول: «يجب أن نقوم في إفريقية بحملة كبيرة شبيهة بما كان يفعل الأفرنج وما كان يفعل القوط....»(11).
وفي الواقع أن «بيجو» انتقد الوسائل والأساليب السابقة، واعتبرها أساليب ضعيفة ضد السكان، وكان حكم «بيجو» يمثل الصورة القاسية، حيث تضمن مخططه عدة أساليب، من بينها الإضرار بالسكان في أرزاقهم كالمحاصيل والمزارع والمواشي، والمطامير، فكل شيء يقف في طريق الوصول إلى هدفه كان يجب أن يزول مهما كانت قيمته.
وقد نجح في إضعاف المقاومة الجزائرية التي كان يقودها الأمير عبد القادر، الذي أرغم على التسليم بعد عدة شهور فقط من مغادرة «بيجو» للجزائر عام 1847(12).
وكان إسرار السكان على التمسك بأراضيهم، يشكل عائقا أمام السلطات الاستعمارية التي كانت تريد المزيد من الأراضي، وكان الضباط الكبار يتسابقون للوصول إلى أهدافهم المقررة، وذلك باستعمال مكثف وأعمى لعملية الإبادة الجماعية للسكان المحليين، ويكفي للتدليل على ما نقوله، إننا نورد فيما يأتي اعترافات الجنرال «كافينياك» (Cavaignac) حول ما فعله لإبادة قبيلة بني صبيح عام 1844، حيث يقول: «لقد تولى الجنود جمع كميات هائلة من أنواع الحطب، ثم كدسوها عند مدخل المغارة التي حملنا قبيلة أولاد صبيح على اللجوء إليها بكل ما تملك من متاع وحيوانات، وفي المساء أضرمت النيران وأخذت كل التدابير، لكي لا يتمكن أي كان من الخروج منها حيا»(13).
وقد بين ذلك الأسلوب «توكفيل» في تقرير له عام 1841، وهو يتحدث عن الوسائل العملية التي يمكن استخدامها في إخضاع القبائل الجزائرية، فيقول: «يجب أن ندمر تجارتهم وأن نمنع عنهم كل المبادلات التجارية، وبعد ذلك تأتي الوسيلة الثانية وهي تخريب البلاد، وفي اعتقادنا أن الحرب ضرورية في تدمير البلاد سواء بإتلاف المحاصيل في أوقات الحصاد، أو في كل الأوقات التي تتطلب الغارات المباغتة والسريعة من أجل اختطاف العباد ونهب قطعان الغنم والبقر»(14).
وهكذا يظهر جلياً أن خطاب «توكفيل» كان يتماشى مع خطاب بناة الاستعمار، فهو في الختام يطمئن قادة فرنسا على أن تلك الأساليب والمغامرات العسكرية تعد مفخرة للدولة الفرنسية، وبتعبيره، وهو ينصح قادة العنف والتقتيل: «ألا تنشغلوا بأمجادكم الشخصية، وأن يؤدي كل واحد منكم واجبه بإخلاص لبلاده، إن فرصة الظهور لكل واحد منكم تكمن في القيام بأعمال وحشية ودموية»(15).
كانت فرنسا في حاجة إلى المزيد من الجنود قصد تنفيذ إستراتيجيتها الاستعمارية في الجزائر، ولهذا لم تكتف بقوتها العددية، بل راحت تستعين بالمجندين أو المحاربين من مختلف الجنسيات الأوروربية وكذلك بالمجندين الجزائريين لتأسيس «الجيش الإفريقي».
كان عدد هؤلاء المجندين الجزائريين في سنة 1844 حوالي 9.654 مقاتلاً من المجموع العام الذي بلغ 80.862 جندياً، وفي سنة 1859 بلغ عدهم 13.259 من مجموع 83.870 جندياً، أي بنسبة (16%)، أما الجيش الفرنسي، فكان عدده بالتقريب 100 ألف جندي فيما بين 1846 و1847 ، وأكثر من 80 ألف جندي في سنتي 1857 و 1864، وأكثر من 70 ألف في أواخر سنة 1870.(16)
ونلاحظ أن العدد التقريبي كان يتغير وفق الظروف الحربية، واشتداد المقاومة الجزائرية، وحسب «فارني» (Warnier)، فإن الجندي كان يكلف حوالي 1.000 فرنك في السنة، وهذا ما كلف خزينة الدولة الاستعمارية أكثر من مليارين ومائتي مليون فرنك(17).
تلك هي جوانب من الجهد الحربي الفرنسي، وأساليبه في الإبادة ولم تقتصر السلطات الاستعمارية على ذلك، بل عمدت على إنشاء في الوقت نفسه المكاتب العربية التي ستكون الوسيلة الأخرى التي ستستخدمها الإدارة العسكرية لإخضاع السكان.
ثانيا: دور المكاتب العربية:
عندما حاول الفرنسيون أن يتوسعوا في الجزائر ويبسطوا نفوذهم في مختلف المناطق، واجهتهم صعوبات كثيرة من جراء رفض وامتناع الجزائريين من التعاون معهم ومهادنتهم، وكانت قد طرحت مشكلة إدارة السكان بعد فترة قصيرة من الاحتلال للقيادة العسكرية التي كانت تنقصها معلومات حول الأحوال العامة في الجزائر، ولكن نظراً لنقص الخبرة، تركت القيادة هذه الأعمال وأعطيت مهمة مراقبة السكان لبعض الشخصيات المحلية ذات النفوذ الكبير، وقد تبين بعد ذلك أن هذه الشخصيات المختارة لم تقم بدورها كاملاً في تزويد الإدارة العسكرية بالمعلومات الضرورية، ولهذا قررت السلطات الاستعمارية إنشاء هيئة تتكلف بجمع المعلومات عن الجزائريين، وجعل هذه الهيئة عبارة عن جسر يربط بين الفرنسيين وبين الجزائريين.
تأسست هذه الهيئة في عام 1833، وسميت «بالديوان العربي» وكان أول شخص عين على رأسها، هو النقيب «لاموريسيير» (Lamoricière)، الذي كان يجيد اللغة العربية. وقد أعطى هذا الضابط دفعاً قوياً لهذه المصلحة، وحقق نجاحاً كبيراً، وأصبح مكتبه وسيلة فعالة في التقاط المعلومات وجمعها والدعاية للاستعمار.
وفي عام 1837 تحولت هذه الهيئة إلى «إدارة الشؤون العربية». وكانت هذه الهيئة مسؤولة عن «تسهيل عملية الاتصال برؤساء العشائر والتفاوض معهم، وإقناعهم بقبول مبدأ التعاون مع فرنسا مقابل التزام هذه الأخيرة باحترام أساليب عملهم والعادات والتقاليد الموجودة عندهم وتوفير الأمن والطمأنينة في مناطق نفوذهم وحماية مصالحهم»(18)، ومع ذلك، فإن عمل هذه الهيئة مستقبلا لا يؤكد على هذا الأمر على الإطلاق.