أحداث اليوم الثالث:
(هجوم ألألو بروج على مؤخرة الجيش, ووصول هنيبعل ل جاب Enemy attack on baggage train; Capture of Gap).
ما أن أشرقت شمس اليوم الثالث حتى عادت قبائل الألوبروج لمواقعها التي كانت قد تركتها في الليلة الماضية فتفاجأت بعدم وجود المخيم حيث تركته, بل وأصيبت بحالة من الصدمة وهم يرون جزءا من جيش هنيبعل هناك في الأعلى وقد ارتقى في سيره مكانا أعلى من الذي كانوا يتجمعون فيه , بينما مازال بقية من الجيش تسير أدنى منهم.
راقبت هذه القبائل الصعوبات التي يمر خلالها جيش هنيبعل في الممرات الضيقة , هذه الممرات التي فرقت الجيش بحكم ضيقها وكذلك عملت على إجفال الخيول التي لم تتعود السير على المرتفعات, والحقيقة وجد الجيش القرطاجي نفسه أمام عدوين الأول كان القبائل العنيدة المقاتلة التي تتربص به شرا, والثاني كانت الظروف الصعبة التي تفرزها طبيعة جبال الألب خصوصا عند المرور في تلك الممرات الضيقة التي كانت تقطع الجيش إلى فرق بحكم ضيق المساحة المتوفرة للتحرك, حتى أصبح الأمر وكأنه على كل رجل من رجال هنيبعل أن يحمي نفسه بنفسه.
وكانت الخيول الغير مدربة على مثل هذه المواطن , قد اعتراها الخوف من الضجيج الذي خلقه تحرك جيش في منطقة ضيقة بين الجبال مما خلق صدى ضل يتردد بين جنبات الجبال المحيطة الأمر الذي أفزع الخيل وخلق بعد ذلك فوضى عارمة في الجيش.
عندما رأى قبائل الألوبروج هذه المصاعب التي يمر بها جيش هنيبعل , زالت حالة الصدمة, ومن ثم استجمعت هذه القبائل تركيزها وثقتها وقواها مرة أخرى وبدأت في رمي مؤخرة الجيش بالحجارة من مواقعهم العالية , فتسببت هذه الحجارة المتساقطة بزيادة جفول الخيول وبالتالي المزيد من الفوضى التي تسببت في سقوط الكثير من الرجال من على أطراف السفوح إلى الأرض وتسبب بالتالي بالكثير من الخسائر.
هنيبعل راقب الموقف بهدوء وقد أبقى مقاتليه الأشداء معه, بالرغم من أن الموقف كان يصدم كل من يراه من الأعلى, إلا أنه علم أن النزول في تلك الممرات الضيقة لن يضيف الموقف إلا تعقيدا, حتى بدأ الرتل يتفكك وشعر أنه لا فائدة من مرور الرجال دون عدتهم وعتادهم عندها أيقن أن الوقت حان للتحرك, لهذا نزل هنيبعل مع فرقة من الجنود الأشداء من الأعلى وشق صفوف الألوبروج الذي انهزموا وانكفأو خاسرين, وبالرغم من أن نزوله إلى مؤخرة الجيش أضاف شيئا من الإرباك إلا أن هذا لم يدم إلا دقائق معدودة حتى عاد النظام للجيش , وعاد الهدوء , وانفتحت أمام الجيش الطريق ليخرج من هذا المأزق بأمان.
قبض هنيبعل على قائد القرية التي تمثل حصن هذه المقاطعة , بالإضافة للقرى المجاورة ووضعه تحت الحراسة, وكانت الغنائم التي غنمها من الأبقار والحبوب كافية لتغذية الجيش لمدة ثلاثة أيام متتالية. وهكذا علم هنيبعل رجال القبائل درسا آخر في عدم التصدي له.
أحداث الأيام من اليوم الرابع وحتى السادس:
المسير دون عوائق نحو قمة مونتجينيفر Easy march towards col du Montgenevre)
استمر الجيش في مسيره بعد هذه الواقعة لمدة ثلاثة أيام دون أي مشاكل تذكر وهو الأمر الذي أعطى فرصة للجيش لكي يعوض ما فاته ويحرز تقدما كبيرا في مسيره.
أحداث اليوم السابع:
(مبعوثون من قبيلة قرب برينكون Envoys from tribe near Briancon).
مع وصول هنيبعل إلى القمم الشاهقة, وإلى مناطق نفوذ قبائل جبلية أخرى كاد هنيبعل أن يقع في فخ تم نصبه وكاد أن يفقد حياته, لولا الخبرة التي اكتسبها هو ورجاله من التعامل مع رجال هذه القبائل المخادعة.
إذ بينما هنيبعل يسير بالجيش , تقدم إليه رجال مسنين من أفراد القبائل التي تقطن تلك المنطقة وهم يحملون في أيديهم أغصان الأشجار وعلى رؤوسهم أكاليل من الأزهار. عرض هؤلاء الرجال تقديم أبنائهم رهائن وإدلاء لكي يعينوا هنيبعل على استكشاف خط سيره, وكانت هذه الطريقة معروفة في ذلك الوقت كتعبير عن الخضوع والتماس الرفق والرحمة.
استمع هنيبعل لأقوالهم وهو يقرأ في عيونهم غير ذلك, إلا أنه شكرهم على قدومهم وعلى عرضهم, لم يكن هنيبعل يريد أن يبدأ هو المعركة لأنه كان يفضل المرور بسلام دون أن يجهد رجاله في قتال لا طائل منه ولا يخدم أهدافه. لهذا رد على القوم بطريقة ودية, فوافق على الاحتفاظ بالرهائن واستخدم ما قدم له من مؤن كان يحتاجها جيشه, وتبع دليلهم الذي عرضوه لكي يدل هنيبعل على انسب الطرق للوصول إلى هدفه.
علم هنيبعل إنهم ينوون الغدر به, لهذا قدم هنيبعل الفرسان إلى المقدمة مع الأفيال ثم بقي هو مع قوة ضاربة من الفرسان والمشاة الأشداء لحماية مؤخرة الجيش. وما أن أشرقت الشمس, وتحرك هنيبعل حتى أظهرت الأحداث بعد ذلك صدق حدسه, لقد تحول أولائك الخاضعين إلى ذياب جائعة تتبع مؤخرة الجيش القرطاجي, وما أن دخل جيش هنيبعل في ممر اسيون ذي الممرات الضيقة الصعبة حتى ظهر رجال القبائل من مخابئهم وقد شنوا هجوما على الجيش من المقدمة والمؤخرة وقد وثبوا وثبة واحدة وهم يرمون بنبالهم وحرابهم الجيش.
في ليلة اليوم الثامن:
في ذلك المساء اشتد هجوم تلك القبائل وكان الضغط الأكبر موجها نحو هنيبعل في المؤخرة, وتمكنت القبائل من فصل مقدمة الجيش عن المؤخرة, مستغلة الطرق الضيقة , ولأول ليلة وجد هنيبعل نفسه مفصولا عن فرسانه في المقدمة مع عتادهم الحربي, إلا أن هنيبعل تكفل وهو وفرسانه بصد الهجوم الذي شنته هذه القبائل وكبدها الكثير من الخسائر.
أحداث اليوم الثامن:
التحام جيش هنيبعل بالقرب من برينكون والمسير بإتجاه قمة جينيفر
Hanniabl's army united near Briancon: March towards col du mont Genevre.
في اليوم الثامن وبعد ظهور بوادر الهزيمة على هذه القبائل, تحولت جموع منهم إلى ذياب جريحة جائعة ضلت تتبع الجيش القرطاجي من على سفوح الجبال لكي تتحين الفرصة لترمي الجيش بالصخور من الجبال العالية أو تبطش بكل من تأخر عن الجيش لمرض أو لسبب آخر.
عندها قرر هنيبعل بنفسه الدفاع عن مؤخرة الجيش, فصعد بهم إلى السفح المطل على الوادي الذي يسير فيه الجيش, وجعل ظهره مواجها للجبال والصخور متأهبا لأي تحرك من تلك الفلول التي مازالت تطارد جيشه حتى مر الجيش وحتى آخر جندي من ممرات اسيون الضيقة.
والحقيقة لولا براعة هنيبعل وعبقريته الحربية وفطنته لما تمثله هذه القبائل من خطر, ولولا اختياره المؤخرة لما أمكن حماية الجيش القرطاجي من بطش هذه القبائل المتمرسة على الحرب في تلك التضاريس القاسية.
أحداث في اليوم التاسع:
وصول جيش هنيبعل لقمة مونتجينيفر Hannibal's army reaches the col du(Montgenevre.
بعد أن اجتاز هنيبعل ممر اسيون في صباح اليوم العشرين من شهر سبتمبر, استمر في السير عبر معابر جبلية لم تطرق من قبل, أحيانا لخطأ الإدلاء, وأحيانا كانت طرق مدروسة, حتى ظهرت له قمة جبل سنيس الشامخة, عندها أمر الجيش بالاستراحة حتى الظهر ثم استأنف مسيره من الظهر حتى وصل للقمة قبل الغروب.
أحداث اليومين العاشر والحادي عشر:
التوقف التخييم على قمة مونتجينيفر Halt on the summit of col du montgenevre
في الصباح قام هنيبعل فرأى منضرا غريبا, عودة العشرات بل المئات من رجاله الذين حسبوا مفقودين في حين أنهم تأخروا من التعب والإرهاق والتيه بسبب الظلام وهم يعبرون الممرات الضيقة , بالإضافة إلى هجمات القبائل على مؤخرة الجيش التي ولاشك أنها فرقت البعض منهم.
لم يكن الأمر مقتصرا على الرجال فقط, بل تبعهم عدد لا يقل من الخيول والبغال والأبقار التي كانت قد طرحت أحمالها ونفرت بين الأودية والجبال إلا أنها عادت مدفوعة بالغريزة الحيوانية حتى استهدت لموقع الجيش.
خيم هنيبعل لمدة يومين على القمة, حتى يعطي رجاله الوقت لكي يرتاحوا من المصاعب الجمة التي رافقت رحلة الصعود وكذلك من المعارك التي خاضها هنيبعل ورجاله ضد رجال القبائل الشرسين في الممرات الضيقة.
أحداث اليوم الثاني عشر:
قمة جبل سنيس Summit of Cenis
كان الجو في ذلك اليوم صافيا جميلا تمكن هنيبعل من خلاله من أن يلاحظ من بعيد خضرة السهول الإيطالية البديعة ووادي نهر بو يلوح في الأفق, ولأول مرة يرى هنيبعل ارض أعدائه أمامه بمروجها وحقولها ومراعيها فانشرح قلبه وامتلأ سعادة لا توصف, إلا أنه وعندما شاهد رجاله سواء من وصل لتوه أو من بات في مخيمهم وقد اكتساهم القلق والوهن والشرود, فأمرهم بالتجمع هناك على جبل سنيس.
هناك في مكان عال على جبل سنيس (Mount Cenis) وقفت مجموعات من البشر غريبة على المكان, يبدو عليهم الوهن والشرود, يرتدون أسمالا ويجرون أثقالا على كواهلهم ورؤوسهم لا تكاد ترتفع عن صدورهم من المشقات والمصاعب التي واجهوها وهم يسيرون في رحم المجهول حتى لفظهم في نهاية الأمر على جبل سنيس.
وأمام هذه الجموع الشاردة كان هنيبعل بهمة ونشاط دون كلل أو ملل تحسبه لم يمر بما مر به القوم من أهوال وصعاب, هو من ذاك المعدن الأصيل الذي كلما دعكته الظروف ازداد بريقا ولمعانا.
وعلى مرتفع يطل على إيطاليا, أوقف هنيبعل الجموع, ثم أشار بيده إلى السهول والوديان وصرخ بهم
انظروا ..............
وساد الصمت المكان, ورفع الفرسان والجنود إبصارهم نحو الأفق بعيدا, وكأنهم يقولون أي هنيبعل إلى ماذا ننظر؟ لم تكن تظهر لديهم غير سهول بعيدة خالية من أي لون بهيج, ولم يكن يظهر لهم منها شي بعد.
لكن هنيبعل لم يكن ليترك لليأس فرصة ليجد مكانا له في قلوب رجاله بل استطرد وهو يعرف ما في نفوسهم وقد خبرهم منذ زمن بعيد قائلا:
يا رجالي
أيها الجنود البواسل
لقد تجاوزتم الحدود التي كانت تحمي إيطاليا, ليس هذا وحسب, بل إنكم تمشون على أسوار روما العالية, من الآن وصاعدا لن يكون هناك جبال تتسلقونها, وبعد معركة أو اثنتين سوف تكون لكم عاصمة إيطاليا, حصن روما لتحتظنونها بذراعيكم.
لقد وصلتم إلى مشارف إيطاليا وهي تلوح أمامكم, أنتم اليوم جائعون خائرو القوى, لكن هناك ستدخلون مدنا عامرة تزخر باللذائذ من أصناف من الطعام والشراب وتعج بالكنوز والتحف الثمينة. أنتم هنا تفترشون التراب وتتوسدون الحجارة والصخور, بينما تنتظركم هناك الأسرة الوثيرة لتمنحكم السعادة والدفء عوضا عن الليالي الباردة والمطيرة التي قضيتموها في سيركم.
ومد يده نحو الأفق وهو يقول: كل هذا ينتظركم هناك, كل هذا سيكون لكم, وهاهي الطريق مفتوحة أمامكم لتركعوا روما ولتكونوا أبطالا تستحقون المجد.
أي سحر هذا ياهنيبعل
ما أن أكمل هنيبعل كلامه حتى عادت الألوان للصورة, وعادت الحياة تذب في نفوس وعقول الجنود, وبدؤوا يرون ما لم يكن يرونه قبل دقائق وكأن كلماته مطايا امتطوها فجالوا من خلالها على كل سهول ووديان ومدن إيطاليا.
أي سحر هذا ياهنيبعل
لقد لامست هذه الكلمات شغاف قلوب الرجال, وملأتهم عزيمة وقوة وإصرار على تحقيق المستحيل. تحرك الجيش بعدها وواصل المسير نزولا من جبال الألب دون أي اعتراض وكل منهم يمني نفسه بالنصر والمجد.
هنيبعل كان قائدا فذا وعبقريا في فهم نفسية رجاله, وكان يعرف متى يتحدث إليهم كصديق ومتى يصدر لهم الأوامر كقائد, كيف لا وهو قد عاشرهم طويلا وخبر نفوسهم وروحهم القتالية حتى أصبح يعرف كيف يقودهم إلى المجهول دون خوف من أي اعتراض منهم.
النزول من سفوح جبال الألب الشرقية وكما ذكر المؤرخين كان في أحيان كثيرة أصعب من الصعود من الجهة الغربية لجبال الألب خصوصا أن الوقت كان في آخر أسبوع من شهر سبتمبر حيث الرياح القوية التي تهب من الشمال , وهو موسم بداية سقوط الثلوج التي كانت تعيق حركتهم, وبالتالي واجهت الجيش الكثير من المشاكل مع الأرض الزلقة التي لم يكن أي منهم قد تعود عليها.
وكما كان الحال إثناء الصعود كانت كذلك الممرات إثناء الهبوط ضيقة وزلقة وتعرض بعض الرجال للسقوط منها وهم ينزلون من القمم, وسرعان ما وجد الجيش نفسه يسير في ممر له منحدر سحيق من كلا الجانبين , وهو أمر يستعصى حتى على الأفراد الذين لا يحملون معهم أي متاع فما بالك بجيش أخذ منه الجهد كل مأخذ, حتى توقفت مقدمة الجيش أمام انهيار سد عليهم الطريق وهو أمر معتاد في تلك المناطق الجبلية, وعندما توقف الجيش ووصل الخبر إلى هنيبعل ذهب ليرى بنفسه الموقف, عندها علم أنه يجب أن يتخذ طريقا يلتف به من هذه المعضلة حتى يكمل المسير وهو ماقام به إلا أن هذا الالتفاف ادخل الجيش في طريق من المنحدرات الأكثر صعوبة.
في تلك المنحدرات كانت الأرض قد اكتستها طبقتين من الجليد, الجليد القديم والجليد الجديد الذي سقط مؤخرا في إشارة لدخول فصل الشتاء, وبالرغم من أن هذا الوضع في البداية أتاح موطئ قدم للسير, لكن ما أن كانت تدوسها وتفرقها أقدام كل هؤلاء الرجال والحيوانات المصاحبة لهم من الخيول , والبغال والأبقار حتى أدت إلى تفرقها وبالتالي ذوبان تلك الطبقة من الجليد, وكانت النتيجة مروعة, إذ خلق هذا الأمر جليد غير مستقر تحت إقدام الجيش وهو ما أدى للكثير من الإنزلاقات حيث لم يكن هناك أشجار يمكن أن تستخدم جذوعها لتثبيت الأرضية التي يسير عليها الجيش, وفي النهاية لم يكن أمام الأغلبية من أفراد الجيش سوى التدحرج والانزلاق مع الجليد الذائب.
وعانت البغال كثيرا من هذا الوضع, إذ أنها كانت تغوص بحوافرها في طبقة الجليد, وكانت في مسعاها للخروج من هذه الطبقة ترافس وتتحرك بقوة الأمر الذي كان يزيد من غرزها في طبقة الجليد أدنى منها, حتى تم احتجاز الكثير منها في تلك المنطقة لتلاقي مصيرها المحتوم.
ومع حلول المساء, أمر هنيبعل الجيش بالتوقف والحفر لخلق مساحة مناسبة للعبور بالرغم من حجم الجليد الذي تساقط على المنطقة حتى يخفف العبء على الجنود وعلى الحيوانات ثم خيم الجيش ذلك المساء على قمة تلة عالية.
يتبع....