منتديات مواد الاجتماعيات



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات مواد الاجتماعيات

منتديات مواد الاجتماعيات

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتديات مواد الاجتماعيات


    سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التعليمية وأثرها في تطور العلوم

    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة : سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التعليمية وأثرها في تطور العلوم 710
    عارضة الطاقة :
    سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التعليمية وأثرها في تطور العلوم Left_bar_bleue90 / 10090 / 100سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التعليمية وأثرها في تطور العلوم Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

    سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التعليمية وأثرها في تطور العلوم Empty سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التعليمية وأثرها في تطور العلوم

    مُساهمة من طرف Admin الخميس فبراير 17 2011, 10:22

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]



    سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التعليمية وأثرها في تطور العلوم

    الجزء الأول

    تفيد كلمة (سياسة) الواردة بالعنوان الخطة الشاملة التي اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم ليخرج الأمة الإسلامية من الجهل إلى العلم عملاً بما ورد في القرآن الكريم من توجيهات.
    ولهذه الخطة مضمون وخصائص ، ويتطلب إنجازها مناهج ومؤسسات.
    أما نجاحها فيتمثل في التحول العلمي الذي طرأ على العرب أولاً ، والإنسانية ثانياً.
    ودراسة هذه الخطة بالرجوع إلى الحديث النبوي يضيف إلى تاريخ التربية والتعليم حلقة مهمة لم تلق العناية المطلوبة من المختصين ، لذلك يسعى هذا البحث إلى أن يتناول القضايا الآتية :
    · مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية
    · خصائص هذه السياسة والأصول التي قامت عليها
    · مناهج التعليم ومؤسساته في هذه السياسة
    · أثر هذه السياسة في تطور العلوم من حيث المضمون والمنهج
    وحتى يظهر هذا الأثر واضحاً جلياً يستحسن أن يتناول مدخل هذه الدراسة قضية المستوى العلمي لعرب الجاهلية وخاصة ما يتصل بأميتهم.
    أمية عرب الجاهلية :
    وصف القرآن الكريم والأحاديث النبوية الأمة التي بعث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها أمية أي لا تعرف الكتابة والقراءة ولكن بعض الدارسين سعوا إلى التشكيك في هذه الأمية وبنو أدلتهم على الآثار مرة وعلى تأويل بعض النصوص مرة ثانية وعلى الافتراض ثالثة.
    فبعد أن تقصى ناصر الدين الأسد ، ما وجد في شبه الجزيرة العربية من نقوش تأكد لديه أن ثمانية منها اشتهر أمرها في المنطقة الشمالية التي تمتد من العلا ومدائن صالح إلى شمال حوران ، وأما وسط بلاد العرب وصميمها الحجاز ونجد فلم يعثر حتى الآن على شيء من النقوش الجاهلية فيها (1).
    واستنتج ناصر الدين الأسد من ذلك : أن العرب لم يكونوا أميين بمعنى الجهل بالكتابة ذلك أنهم كانوا يكتبون في جاهليتهم ثلاثة قرون على أقل تقدير بهذا الخط الذي عرفه بعد ذلك المسلمون ، وقد أصبحت معرفة الجاهلية بالكتابة معرفة قديمة أمراً يقيناً (2)
    سعى جولد تسيهر إلى التأكيد على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا متعلمين ، إذ كانوا يحملون صحفهم ليدونوا فيها المعلومات التي يتلقونها من الرسول صلى الله عليه وسلم فانتقال الصحابة رضي الله عنهم من الأمية إلى العلم لا يمكن في نظر المستشرق أن يتم في ظرف وجيز كالذي قضوه إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأراد جولد تسيهر أن يؤكد هذه المعرفة فقال : إن ما دونه الصحابة في صحفهم سموه متناً. وهذه الكلمة جاهلية النشأة وتفيد الكتابة فهذه الأخيرة كانت معروفة في الجاهلية.
    واستدل جولد تسيهر وغيره من أن لفظة أمي وما اشتق منها والواردة في القرآن الكريم لا تفيد الجهل بالقراءة والكتابة ، بما رواه الطبري في تفسيره لقوله تعالى : (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) (3) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله ولا كتاباً أنزله الله.
    إن الأهداف التي سعى إلى تحقيقها المدافعون عن رقي المستوى التعليمي لعرب الجاهلية تتمثل في أمرين على أقل تقدير :
    أ‌- القول بأن الإسلام لم يشارك في بناء الحضارة وتطور العلوم ، فكثير من نصوصه ومصطلحاته هي فهم جديد لنصوص دينية وحضارية كانت منتشرة في الجزيرة العربية والبلدان المجاورة ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تلقاها وقرأها
    ب‌- حرمان الحضارة الإسلامية من كل طرافة ، واتهام العلماء المسلمين بالسطحية ، فهم لا يحللون النصوص ولا ينقدونها نقداً علمياً ، فهم يكتفون بنقل الأخبار وتوثيقها إذا ما عدلوا رواتها ، ولذلك وقعوا في الأخطاء والمتناقضات ، وشوهوا الحضارة الإنسانية بما نقوله من نصوص خاطئة.
    والمتدبر في حجج وبراهين هؤلاء المدافعين عن مستوى العرب العلمي يلاحظ أنهم وقعوا في أخطاء منهجية وأخرى موضوعية.
    فهل يكتفي الباحث بوجود ثمانية نقوش بعيدا عن مكة والمدينة والطائف ليتكرم على العرب قاطبة بأنهم كانوا يعرفون القراءة والكتابة ، فلو وجدت بعد أربعة قرون من الآن آثار لآلات حديثة وتقنيات متطورة اقتناها في عصرنا الحاضر بعضهم ، واستخدمها في بلد من البلدان المتخلفة ، فهل يجوز إذاك التعميم والقول بأن هذا البلد كان في القرن العشرين متقدماً وبه تقنيات متطورة ؟ وهل قال القرآن الكريم : إن بعض الجاهلية لم يمكن باستطاعتهم أن يكتبوا وأن ينقشوا وأن يتغنوا بشعرهم وبشعر غيرهم ، وان يعلقوا القصائد في فناء الكعبة أو أن يكتبوها بماء الذهب ؟
    هل ورد في القرآن الكريم ما يفيد أن الأميين لا يعلمون أن هناك أناساً من بينهم وفي الأمم المجاورة يكتبون ويحسبون ويقرؤون الكتب والصحف ؟ ألم تذكر الأخبار أن الرجل الكامل عند العرب في الجاهلية وأول الإسلام هو الذي يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي (4).
    لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفاً بأن بعض العرب كانوا يمارسون الكتابة ، ففي الفقرة العاشرة من الوثيقة التي كتبها لثقيف قال : (وما كان لثقيف من دين في صفحهم ، اليوم الذي أسلموا عليه في الناس فإنه لهم)(5).
    فالرسول صلى الله عليه وسلم : لم يجد في ذكر صحف ثقيف التي ضمت ما لهم وما عليهم من ديون تعارضاً مع ما وصف الله تعالى من أمية لأنه يعلم أن القرآن الكريم يتحدث عن العرب في مجموعهم لا عن أفرادهم.
    فعندما نقول اليوم : إن العرب جاهلون بتقنيات غزو الفضاء وعلومه فهل يعني ذلك أننا ننكر وجود جماعة قليلة منهم يعمل أفرادها في هذا البلدان.
    لقد كان عرب الجاهلية أميين كما وصفهم القرآن المجيد رغم وجود النقوش الثمانية والمعلقات العشرية وغيرها من الأخبار التي تذكر أن هذا الفرد أو ذاك كان قارئاً وكاتباً ، وكان العلماء المسلمون على بينة من هذه الأمية لذلك ناقشوا كل من سعى إلى تأويل لفظة الأميين لتدل على غيرها المفهوم.
    فالطبري وهو الذي أورد الرواية المنسوبة لابن عباس والتي أولت كلمة أمين بأنهم الذين لم يصدقوا رسولاً أرسله الله تعالى ، وقد أورد قبلها خمس روايات فسرت الأميين بأنهم جماعة من اليهود الذين كانوا لا يقرؤون ولا يكتبون.
    ولم يكتف الطبري بذكر الروايات بل علق عليها بقوله : (ومنهم أميون) ومن هؤلاء اليهود الذين قص الله قصصهم في هذه الآية فالمقصود بالأميين في الآية اليهود واليهود يؤمنون بموسى ، فهم أميون لأنهم لا يعرفون القراءة والكتابة.
    وبعد ذكر رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال : (وهذا التأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم ، وذلك أن الأمي عند العرب هو الذي لا يكتب (6).
    وبعد ذكر رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال : وهذا التأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم ، وذلك أن الأمي عند العرب هو الذي لا يكتب (7).
    بقى علينا أن نقف عند ما استبعده تسيهر من تحول بعض الصحابة من الأمية إلى معرفة القراءة والكتابة ، لنشير إلى أنه هو نفسه قد خضع لهذا التحويل السريع.
    فقد أصبح قادراً على الغوص في أسرار اللغة العربية ومتعاملاً مع ما ضمته مكتبتها من كنوز صدرت عن أئمة القرآن والحديث والفقه والعقيدة ولم تتجاوز فترة أخذه من علماء العربية والمهتمين بالتفسير واتجاهاته والحديث ومصطلحه والفقه واقضيته من حيث الامتداد في الزمن المدة التي قضاها أبو هريرة رضي الله عنه متعلماً عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهل يجوز لنا أن نستنتج من ذلك أن المجتمع المجري الذي عاش فيه كان يمارس العربية نطقاً وكتابة ويستخدمها أداة للتفكير ؟..
    وهكذا يتضح أن براهين المدافعين عن رقي المستوى العلمي لعرب الجاهلية لا تستقيم عند النقد ، فالعرب كانوا أميين في جملتهم وحظهم من المعرفة كان قليلاً ، والرسول صلى الله عليه وسلم ، أتى ليبشرهم ولينذرهم بالدرجة الأولى ، وليفتح أمامهم أبواب العلم والمعرفة ، وأنه اتبع سياسة تعليمية يجدر بالبحث العلمي أن يتناولها بالدرس ليحدد مضمونها ، وليبين خصائصها ومناهجها ومؤسساتها حتى يستطيع بعد ذلك الوقوف على أثرها في تطور العلوم من حيث المضمون والمنهج.
    مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه التعليمية :
    روى البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله ؟قال : العلم (Cool
    عنون البخاري لهذا الحديث بقوله (فضل العلم) وهو نفس عنوان الباب الأول من أبواب كتاب العلم وظن بعضهم أن البخاري قد كرر العنوان في حين أن العنوان الأول يفيد الفضيلة والثاني يفيد الزيادة كما ذهب إلى ذلك ابن حجر حين قال : الفضل هنا بمعنى الزيادة أي ما فضل عنه , والفضل الذي تقدم في أول كتاب العلم بمعنى الفضيلة فلا يظن أنه كرره (9).
    ويمكن للباحث أن يضيف إلى ما قاله ابن حجر وغيره من الشراح أن الحديث يشير إلى نوعين من العلم في الإسلام : الأول يمثله قوله صلى الله عليه وسلم : " أتيت بقدح لبن " فهذا القدح من اللبن لم يكتسبه الرسول صلى الله عليه وسلم اكتساباً ، ولم يعمل على الوصل إليه ، ولم يتدخل عقله أو حواسه للحصول عليه.
    فهو الوحي بنوعيه المتلو والمروي ، وله خصائص من أهمها أنه ثابت في نصه.
    أما الثاني فيمثله قوله عليه الصلاة والسلام :" إني لأرى الري يخرج من أظفاري" ، ويشير إلى أن العلم الثابت كان مصدراً لعلوم كثيرة تعود على الإنسانية بالخير ، فهي زيادة أصلها النوع الأول.
    فالحديث يحدد مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية ويبين أنه يتكون من أصلين :
    (الأول) : ونستطيع أن نسميه الجذع المشترك وهو القدر الضروري الذي يحتاج إليه في بناء العقيدة وفي القيام بالعبادات وفي ممارسة المعاملات حسب الأحكام التي بينها القرآن الكريم والسنة النبوية.
    والأحاديث التي جاءت لتبين هذا المضمون أو لتصفه كثيرة : أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :
    (1) حديث جبريل عليه السلام الذي رواه عمر بن الخطاب. والذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة بعد ذهاب جبريل : (هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم).(10)
    (2) ما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب الزهري (أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوماً فدخل عليه عروة بن الزبير ، فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوماً وهو في الكوفة ، فدخل عليه ابن مسعود الأنصاري فقال : ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم قال بهذا أمرت.(11)
    (3) أخرج الأمام أحمد عن عدي بن حاتم أنه قال : (أتيت الرسول صلى الله عليه وسلم فعلمني الإسلام ونعت لي الصلاة وكيف أصلى كل صلاة لوقتها.
    (4) وعن عبد الله بن مسعود قال : (إن الرسول صلى الله عليه وسلم ، علم فواتح الخير وجوامعه أو جوامع الخير وفواتحه وإنا كنا لا ندري ما نقول في صلاتها حتى علمنا).(12)
    (5) عن فضالة الليثي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وعلمني حتى علمني الصلوات الخمس لمواقيتهن).(13)
    (6) روى عن أبي موسى الأشعري أنه قال : (إن الرسول صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سننا وعلمنا صلاتنا.(14) .
    ومضمون هذا النوع مستمد من الآيات القرآنية ومن الأحكام المنزلة على الرسول صلى الله عليه وسلم من طرق الوحي ، وهذا العلم هو الذي سماه ابن عبد البر العمل الأعلى ،فهو موروث عن النبوة.
    وهو الذي قصدته بعض الأحاديث ومنها :
    1- ما رواه أنس بن مالك عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه قال : (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل) (15)
    2- ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (16)
    3- ما رواه البخاري معلقا في باب كيف يقبض العلم قال : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم ، انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولتفشوا العلم ،ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم ،فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً. (17)
    الثاني : ونسميه العلم الفرعي أو العلم الزائد وهو الذي تفرع عن العلم الأعلى وتنوعت مصادره وارتبطت بالإنسان واستخدمت الأجهزة والوسائل البشرية مع الاستنارة بالعلم الأعلى ، ومن العلوم الفرعية التي جاءت في مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية ، علم اللغات نطقاً وكتابة.
    لسنا بصدد تعريف علم اللغات ولا بيان نشأتها واختلافها وتطورها ، ولكن نشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحث بعض الصحابة على تعلم اللغات غير العربية لأنه عليه الصلاة والسلام يدرك أن ذلك يسهل التخاطب مع الأمم المجاورة للمسلمين ، والاطلاع على ما كتب بهذه اللغات بطريقة مباشرة.
    فقد روى عن زيد بن ثابت أنه قال : (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلمت له كتاب يهود. وقال إني ما آمن يهود على كتابي فتعلمته فلم يمر بي نصف شهر حتى حذقته. فكنت أكتب له إذا كتب واقرأ له إذا كتب إليه). (18)
    ليس من الضروري في بحثنا هذا التوقف عند المدة التي قضاها زيد بن ثابت من حذق اللغة التي كان اليهودي يكتبون بها التوراة ، فتلك قضية قد تجد لها بعد التأويلات ، كأن يقال : إن زيد بن ثابت كانت له معرفة أولية بهذه اللغة وأنه أتقنها في المدة المذكورة في الحديث بأن خصص لها معظم وقته وتفرغ لها التفرغ الشرعي ، ولكن المهم أن نبين أن الحاجة دعت المسلمين إلى أن يتعلم بعضهم لغة اليهود حتى يتمكنوا من قراءة النصوص المدونة بها ، ومن أن يكتبوا بها إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، ففي تعلم هذه اللغة حماية للإسلام وأهله من التحريف والتزوير ، فقد جاء في الحديث (إن أهل الكتاب كانوا يقرؤون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم (الحديث) (19)
    قد يظن أن الحديث ينهى عن الأخذ عن اليهود مطلقاً ، وهذا لا يستقيم فالقرآن الكريم قد حاور اليهود ، وكذلك فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد سألهم وأجاب عن أسئلتهم.
    فالنهي هنا مقيد أي لا تأخذوا عنهم ما سكت القرآن الكريم والسنة العطرة عنه ،ولا تأخذوا عنهم كل ما يدعون أنهم يقرؤونه لكم من كتبهم ،فمن عادتهم تحريف الكلم عن مواضعه ، وطمس الحقيقة بطريق مختلفة ،فإذا ما تعلم المسلم لغتهم وقرأ نصوصهم قراءة مباشرة فإنه يوصد أمامهم أبواب التضليل ، ويجعلهم يدركون أن المسلمين لا تنفع معهم الأكاذيب ، فهم على اطلاع بالنصوص المكتوبة بالسريانية وغيرها من اللغات ، وهكذا يتضح أن مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية قد وضع مكانة لتعلم لغة اليهود ،وهذا لا يعني أن الأمر يقتصر عليها فالحاجة قد تدعو المسلمين إلى تعلم لغات لن يستطيعوا بدونها المشاركة في بناء الحضارة الإنسانية ، أو هي تفتح أمامهم أبواب القوة والمناعة ، والخروج من دائرة السيطرة التي تفرضها عليهم بعض الأمم.
    فالمسلم اليوم مطالب بأن يتقن إلى جانب لغته العربية بعض اللغات الأخرى ،لأنه بدون ذلك يعد أميا، فالأمي في عصرنا وبالنسبة لنا العرب ليس ذلك الذي لا يحسن القراءة والكتابة ، وإنما هو الذي لا يحسن من اللغات إلا لغته الأصلية.
    والأمي اليوم هو الذي يتعلم لغة قوم ولا يستخدمونها في البحث والاكتشاف والاختراع وإدراك أسباب قوة أصحابها والاطلاع على جوانب ضعفهم.
    والأمي اليوم هو الذي يتعلم لغة قوم ليقلدهم في مظاهر حياتهم اليومية وفي عاداتهم وتقاليدهم ، دون أن ينفذ إلى لب حضاراتهم وأسباب مناعتهم ، فهو كالإسفنجة تمتص الماء ثم ترجعه كما هو إذا ما تسلطت عليها قوة خارجية ، أما اللبيب فهو الذي يتعلم لغة قوة ليأمن شرهم وليضيف لبنة في صرح الحضارة الإنسانية ، وهذا ما ورد في حديث زيد بن ثابت المتقدم.
    إن تعلم أية لغة يبقى ناقصاً إذا لم يجمع بين القدرة على التخاطب بتلك اللغة وكتابتها ، فالكتابة لها مكانة مهمة في المحافظة على العلم والتعمق فيه ، ونقله إلى الأجيال ، لذلك اهتم الإسلام بالقراءة والكتابة ،فأول ما نزل من القرآن الكريم هو الأمر بالقراءة ، قال تعالى : (اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم) (20) وقال عز من قائل (ن والقلم وما يسطرون) (21)
    وجاء في سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية أن الكتابة من مضمونها ، فقد حث عليه الصلاة والسلام بعض المسلمين على أن يتعلموا الكتابة ، واشترط على بعض أسرى بدر أن يفدوا أنفسهم بتعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة ، لقد كان عليه الصلاة والسلام على علم بالصعوبات التي تعترض الكتابة ،فالعارفون بها قليل عددهم، ووسائلها صعبة ،وتقنياتها لا توفر للنص المنزل وعلى ما ينتجه الإنسان من نصوص ، فمن الضروري أن يتعلمها بعض الصحابة ،وأن يهتموا بها ،وأن يسعوا إلى نشرها ، وفعلاً توصل بعض الصحابة إلى ذلك.
    قال عبادة بن الصامت : (علمت ناساً من أهل الصفة الكتابة والقرآن) (22) وعن الشفاء بنت عبد الله أنها قالت : (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال لي : (ألا تعلمين هذه رقية النملة) (23) كما علمتها الكتابة (24).
    فعبادة بن الصامت وقد كان عارفاً بالخبط العربي تحمل مسؤولية تعليم المسلمين الراغبين في حذق الكتابة إلى جانب حفظ القرآن الكريم ؛ حتى يكثر عدد الكتاب ، وينشر هذا الفرع من العلم الذي يساهم أصحابه بقسط وافر في المحافظة على القرآن ونقله إلى الأمة الإسلامية كما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيسهمون في تحقيق وعد الله تعالى الوارد في قوله عز وجل : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (25) .
    إن تعلم الكتابة إلى جانب القرآن الكريم يفسح المجال للعلوم الفرعية التي يمكن أيضاً وصفها بالعلوم البشرية لتسهم في حفظ العلم الأعلى المتصل بالوحي وتعلمه ونشره :
    أما الشفاء بنت عبدالله واسمها ليلى وهي قرشية عدوية أسلمت قبل الهجرة فكان لها نصيب من المعرفة جعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعمر بن الخطاب يكلفانها ببعض الأمور ،فالرسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلب منها أن تعلم زوجه حفصة الرقية من القروح التي تصيب جسم الإنسان ، كما علمتها قبل ذلك الكتابة فأسهمت في نشر العلم.
    ويقال إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قد ولاها شيئاً من أمر السوق (26)
    فالكتابة ، في الأحاديث النبوية فرع من فروع العلم البشري والإنسان في حاجة إليها في كثير من أمور دينه ، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد عمل على أن يكون من بين أصحابه كتاب للوحي ، ولبعض الأمور كالعقود والعهود ، فقط نعتت روايات بعض الصحابة بأنهم من الكتاب.
    جاء في حديث لابن عباس رضي الله عنهما أن معاوية كان كاتب الرسول صلى الله عليه وسلم (27) .
    ووصف حديث آخر حنظلة الأسدي بأنه من كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم (28) .
    وجاء في حديث صلح الحديبية أن مبعوث قريش سهيل بن عمرو قال للرسول صلى الله عليه وسلم هات أكتب بيننا وبينكم كتاباً فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب (29) .
    وهكذا يتضح أن سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية جعلت من تعلم اللغات فرعاً من فروع العلم ، ونستطيع التوسع في هذا المجال فنقول : إن كل ما يساعد على تعلم اللغات نطقاً وكتابة وتحليلاً ومقارنة يدخل في هذا المضمون ، وأنه يساعد على المحافظة على العلم الأعلى وفهمه ،وبفضله يستطيع الإنسان أن يقوم على أحسن وجه بما كلفه الله تعالى.
    وإلى جانب الاهتمام بعلم اللغة وحث المسلمين على أن يتخصص بعضهم أو جلهم في تعلم بعض اللغات وما يتصل بها من مباحث ودراسات فقد أشارت بعض الأحاديث إلى علم التاريخ ، وهذا الأمر يعد منطقياً بالنسبة للإسلام ، فالقرآن الكريم أورد حقائق تتصل بما كان عليه الإنسان من أصول عقديه ومناهج سلوكية ،وبما حدث بعد ذلك من تحول أدى بالإنسان إلى الشرك بعد التوحيد عندما اجتالت الشياطين عباد الله ،فجعلتهم يخيرون الانحراف والاعتداء على الاستقامة والعدل ،وفيه أيضاً قصص الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى ليخرجوا أممهم من الظلمات إلى النور ،وليخلصوا الحقيقة من الأدران ، وليعيدوا للعقل مكانته التي أعدها الله له.
    كل هذه القضايا تمثل جانباً من صله الإسلام بالتاريخ ففيه رواية للأخبار واستخلاص للعبرة منها وتوظيفها للحاصر والانطلاق منها لأعداد المستقبل ،وفي هذا الإطار يندرج ما روي عن الرسول صلى الله علي وسلم من أنه قال : (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الحريم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر).(30)
    فهذا الحديث وإن لم يرق إلى درجة الصحيح إلا أنه يسير التوجيهات الإسلامية ،فآخره يتناول قضية من أهم قضايا تماسك المجتمع ، أما أوله فيهتم بفرع من فروع التاريخ وهو التاريخ الخاص ،أي الذي يتصل بأخبار الأفراد أو الجماعات الصغيرة ، لينطلق بعد ذلك إلى التاريخ العام ،وهو تاريخ الأمم والشعوب والأحداث المهمة.
    والمتدبر في الحديث يلاحظ التبعيض الوارد في قوله (من أنسابكم ويستخلص منه الدعوة إلى الاختيار أي إلى النقد ، فلا يؤخذ كل خبر يتصل بالأنساب ، وإنما يجب اختيار الصحيح من الأخبار حتى لا يستخدم هذا العلم لنشر الكذب أو التعالي أو التباهي أو بعث الحمية الجاهلية ،وإنما ينطلق منها لما هو جليل كصلة الأرحام وغيرها من الأهداف النبيلة التي يسعى علم التاريخ إلى تحقيقها والاستنارة بها.
    وإذا انتقلنا من مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم المتصل بعلم التاريخ على ما له من صلة بالطب لاحظنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم للمسلمين بعض الإشارات المتصلة بهذا الميدان ، وهي تدعو الإنسان إلى البحث والتعمق لتطوير ما جاء في هذه الإشارات ولاستخلاص العبرة منها حتى تكون دراساته ومباحثه مستجيبة للحقائق العلمية والوسائل المتوفرة ، ولتعلم إرادة الله تعالى ومشيئته ، لقد ذهب بعضهم إلى القول بأن (ما أتى بهم محمد في هذا المجال هو من أمور الدنيا مما لا علاقة للدين بها ،فلا فرق عندئذ في ذلك بين النبي صلى الله عليه سلم وبين غيره من البشر لما ورد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه قال : (إذا أمرتكم بشيء من يدنكم فخذوا وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر) (31)
    ولما نقله السيرخسي في أصوله من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا أتيتكم بشيء من أمر دينكم فأعملوا ، وإذا أتيتكم بشيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم بأمر دينكم (32) (إن هذا القول لا ينفي أن تكون العلوم الطبية داخلة في مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية ، ومع ذلك فنحن نتوقف عنده لأنه يسوي بين أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة وبين ما يصدر عن البشر فيما ينعته بأنه من أمور الدنيا ، فكأنه يقول: إن مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية قد يخطئ كما تخطئ بعض الخطط التعليمية التي يضعها البشر ،إن صاحب القول ينطلق من حديث صحيح السند يطابق متنه المنقول والمعقول ،ويفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين إذا أمرتكم بما هو وحي منزل فسلموا ، واعملوا بما جاء فيه من أمر أو نهي ، أو ما شابههما، أما إذا صدر عني اجتهاد لم ينزل وحي بإقراره أو برده فتستطيعون الأخذ به أو الاجتهاد معه ، وفي الحالتين يكون المسلمون في مأمن من الاستمرار على الخطأ ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم معهم ، ذلك أن الوحي لا يتركه على الخطأ في جميع الحالات.
    أما الحديث الثاني ، الذي نقله السرخسي فلا يرتقي إلى الصحيح ،وقد أورده في حادثه تأبير النخل التي كانت سبب ورود الحديث عند مسلم أيضاً ، وهي تؤكد ما ذكرناه آنفاً من أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الاستمرار في الخطأ ،فقد اجتهد اجتهاداً خالف قوانين التلقيح ، ثم جاءت التجربة لتبين تلك المخالفة فلم يتشبث عليه الصلاة والسلام باجتهاده ، ولم يقل إن لوحي وافقه بل أدرك عليه الصلاة والسلام أن حكمة الله تعالى تركت بيان ذلك للتجربة ،ولما اتصف به الرسول صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال.
    إن التفريق بين أمور الدين والدنيا الذي سعى بعضهم إلى التأكيد عليه هو الذي دفع بعضهم إلى القول بأن المسلم يستطيع مخالفة الخبر الصحيح المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان متصلاً بأمور الدنيا.
    إن هذا المذهب يكون مقبولاً في الأحاديث الضعيفة التي يتضمن متنها حكماً قطعياً بينت التجربة والعلم خطأه بدرجة تقترب من اليقين ، أما الأحاديث الصحيحة فينبغي التعامل معها بالطرق التي بينها علماء الحديث ونقاده ،فجمعها ومعرفة الناسخ والمنسوخ منها ودراسة سبب ورودها وسائل قد تبين للباحث جوانب عابت عن الدارسين ، وإذا ما تعذر ذلك فعليه أن يفتح أبواباً للعلم انطلاقاً من هذه الأحاديث ، فلعل التجربة تثبت في يوم من الأيام صحتها علمياً ، وتمكن الإنسانية من معرفة قد تبقى محجوبة عن البشر مدة قد تطول أو تقصر.
    بهذا المنظار يمكن للباحث أن يؤكد أن الحديث النبوي دون أن يفصل في العلوم الطبية قد أشار إلى بعضها وقدم للإنسان في العصر النبوي بعض الأودية ، وحث المتأخرين على البحث والتنقيب والإيمان بأنه لا يوجد داء بدون دواء ،والوجود هنا هو الوجود بالقوة لا الوجود بالفعل فما على الإنسان إلا أن يتعلم ويبحث ،وهذا ما يشير إليه الحديث النبوي (ما أنزل الله داء إلا نزل له شفاء). (33)
    ويتأكد جانب الحث على الاجتهاد لاكتشاف الأمراض وسببها والأدوية وتركيبها ومقارنتها ووقت تناولها وطريقة ذلك بما جاء في بعض الروايات من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في آخر الحديث : (علمه من علمه وجهله من جهله). (34)
    فالعالم بالطب هو الذي يعرف الدواء ويستخدمه استخداماً يفضي إلى الشفاء ،في حين أن الجاهل يغيب عنه الدواء أو تغيب عنه طريقة استعماله أو مقداره.
    ومن الجدير بالملاحظة أن ما جاء في الأحاديث النبوية يشير إلى أن الطب نوعان : جسمي مادي ونفسي ، فما له صلة بالرقية والدواء من العين فهو طب نفسي.
    وهكذا يتضح أن الأحاديث النبوية دون أن تقدم ديواناً في الطب أو وصفاً لكل داء ولكل دواء فتحت أمام الفكر البشري أبواب البحث وحثت المختصين على التعمق في الدراسة والاكتشاف.
    إن العلوم التي جاء ذكرها في الأحاديث النبوية ليست كلها نظرية ، فالبعض منها هو من العلوم التطبيقية ، إذ تهتم بتدريب الجسم وتعويده على حركات تمكنه من اكتساب قدرات يستطيع بفضلها بلوغ أهداف خطط لها العقل.
    فقد حدث أبو سلام الدمشقي عن خالد بن يزيد الجهني قال : كان عقبة بن عامر يمر بي فيقول : يا خالد اخرج بنا نرم ،فلما كان ذات يوم أبطأت عنه فقال : يا خالد تعال أخبرك بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيته فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة : صانعه يحتسب في صنعه الخير ، والرامي به ومنبله ،وارموا وأركبوا ،وإن ترموا أحب إلى من أن تركبوا (35) .
    ففي الحديث إشارة إلى علوم تعادلها اليوم علوم الصناعات الحربية والتدريب والتمرن على قيادة الطائرات والدبابات والصواريخ ، وغيرها من العلوم التي تفننت بعض الدول في اتقانها وتطويرها فأصبحت بفضلها قوية منيعة تتحكم في أجزاء مهمة من المعمورة.
    والخلاصة فإن مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية يتسع لكل ما يمكن الإنسان من أداء الوظيفة الشاملة التي كلفه الله بها ،هذه الوظيفة التي وصفها القرآن الكريم بأنها أمانه ،وبأنها عرضت على بعض المخلوقات قال تعالى : (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) (36) .
    والتفسير الذي يطمأن إليه هو الذي يربط الأمانة بالعقل وبخلافة الله في الأرض ،هي الخلافة التي تحمل كل معاني التكليف ،وترتبط بالعلم ارتباطاً أساسيا ، قال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسير الآية : (والقول في حمل معنى الأمانة على خلافة الله تعالى في الأرض ،مثل القول في العقل ، لأن تلك الخلافة ما هيأ الإنسان لها إلا العقل ،كما أشار إليه قوله تعالى : ( إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) ثم قوله : (وعلم آدم الأسماء كلها) ، فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانا ، ووضع الموجودات فيها في مواضعها واستعمالها فيما استعدت إليه غرائزها (37) وهذا لا يكون إلا بالعلم بنوعيه ، لذلك أشارت الآية في الآفة التي تمنع الإنسان من الوفاء بالأمانة هي الجهل ، فكل علم يمكن الإنسان من القيام بالتكليف بالمعنى الشامل للكلمة يدخل في مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية.
    وللعلم في الأحاديث النبوية بعض الخصائص منها :
    1- الاستمرارية
    2- العموم
    3- الكسب
    9- خصائص العلم :
    1- الاستمرارية :
    اقترنت قصة خلق آدم عليه السلام بنشأة العلم ، قال تعالى : (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) (38)
    والتفسير الذين يطمئن إليه هو الذي يبين أن الله تعالى مكن آدم من العلم ،وذلك بالقدرة على تسمية الأشياء والنطق بمدلولها للتعبير عن مقصوده وتبليغه إلى غيره ، إن هذه التسمية مرتبطة ارتباطاً جذريا بالتقدم الحضاري ،فالذي يبحث ويعلم ويضع الآلة هو الذي يسميها ،وما على الآخرين إلا أن يأخذوا عنه التسمية كما أخذوا عنه استخدام الآلة وهذا الأمر حاصل لنا اليوم معشر العرب فإننا نستورد الآلات وأسماءها والتقنيات وطريق أدائها ، ويسعى بعضنا إلى أن يعرب الأسماء فيستعصي الأمر عليه ونختلف وننسى أنه لو كتب لنا أن نكون نحن المخترعين فإن الأسماء ستكون عربية لا محالة.
    وقد علمنا الله تعالى بهذه الحقائق ، وبين لنا أن الإنسان يحتاج إلى الأشياء ما دامت الحياة مستمرة ، وأنه في حاجة إلى تسميتها أي إلى استخدام العلم.
    فالعلم بدأ مع الإنسان ولن ينتهي إلا بفناء الإنسانية كما جاء في كثير من الأحاديث النبوية.
    (أ‌) عنون البخاري للباب الواحد والعشرين من كتاب العلم بباب رفع العلم وظهور الجهل ، وقال ربيعة لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه ، ثم خرج حديثين عن أنس بن مالك جاء في أولهما أن الرسول صلى الله عليه قال : (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا) (39)
    وجاء في الثاني أن الصحابي الجليل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل ،ويظهر الزنا ، وتكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد. (40)
    ب – أورد البخاري خبر الكتاب الذي كتبه عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم ، مرتين ، جاء في الأولى معلقاً ،وفي الثانية مسنداً موصولاً ، وجاء فيه أن عمر بن عبد العزيز قال لأبي بكر بن حزم : (انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ، ولا تقبل إلا حديث النبي ، ولتفشوا العلم ، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً.
    ومما يلاحظ أن الرواية المتصلة تقف عند قوله وذهاب العلماء (41) وبعد ذلك خرج البخاري حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) (42).
    فهذه الروايات تبين أن العلم سوف يبقى مع الإنسان في الحياة الدنيا ،وأن ذهابه علامة من علامات الساعة ،وأن الله تعالى قضى وقضاؤه الحق أن يبدأ العلم مع الإنسان وينتهي معه.
    فلا يجوز لعالم أن يقول إن العلم قد ختم بما توصل إليه هو من نتائج أو أن أبواب العلم قد أغلقت بما كتبه هو أو استنبطه من معادلات أو تجارب أو اختراع ، فالعلم لا يعرف النهاية ولا يرفع عن الكون إلا إذا حكم الله تعالى بذلك فأذهب العلماء الواحد تلو الآخر.
    أما قبل ذلك فلن يخلوا الكون منن العلماء ، فقد روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) ، قال البخاري وهم أهل العلم (43) .
    لقد قيدت بعض الأحاديث الطائفة المذكورة بأنهم الذين يقاتلون على الحق (44) وذكرت آثار أنهم أهل الحديث (45) .
    والذي يطمئن إليه الباحث أن العلماء هم الذين يبقون ظاهرين على الحق ، فيبينون الناس أوامر الله تعالى ونواهيه ويشرحون لهم ما كلفوا به من قول عمل وسلوك.
    وحتى تتحقق الاستمرارية اقتضت حكمة الله تعالى ولطفه بعباده أن خلق فيهم القدرة على التعلم ،ومن هنا جاءت الخاصية الثانية للعلم في الإسلام ،وهي العموم بمعنى أن العلم حق مشاع بين كل الناس.
    العلم حق مشاع :
    وهب الله الإنسان قدرات وأجهزة تمكنه من تحصيل العلم ، فالعقل والحواس من النعم المشتركة بين البشر لا فضل فيها لجنس على آخر إلا بمدى استعمالها وطرقه.

    فالرسول صلى الله عليه كان يعلم الصحابة أجمعين لا يميز بين رجل وامرأة ولا سيد وعبد ولا عربي وأعجمي ، فمدرسة النبوة وضعت المبدأ الذي ناضلت في سبيله كثير من الأمم والهيئات الدويلة والمتمثل في ديمقراطية التعليم ، أي جعله حقاً من الحقوق التي يتمتع بها الفرد.
    لم يحرم الرسول صلى الله عليه وسلم النساء من حق التعلم لما أتينه مطالبات بأن يخصص لهن عليه الصلاة والسلام جزءاً من وقته بل أكبر فيهن حبهن للعلم وعلمهن أمور دينهن الذي فيه عصمتهن من الذنوب ،وبفضله يكتسبن دراية تبيح لهن القيام بما كلفن به ، من وظائف تربوية واقتصادية واجتماعية.
    فقد روى البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم ، غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن ، وأمرهن فكان فيما قال لهن : ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار ، فقالت امرأة : واثنين ، فقال : واثنين (46)
    فالرسول صلى الله عليه وسلم ، علم النساء وغيرهن في هذا الحديث ثلاثة أمور :

    1- أن العلم حق للجميع ،وأن الإنسان يستطيع أن يطالب بهذا الحق بالطرق المشروعة.
    2- أن الإنسان مطالب بأن يتجنب الشح المادي ،وأن يحمي نفسه منه ،قال ابن حجر : قوله وأمرهن أي بالصدقة (47) .
    3- التحلي بالصبر الجميل
    فقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم النساء ثواب من تحمى نفسها من الشح المعنوي الذي قد يؤدي بصاحبه إلى الكفر بنعم الله تعالى والانهيار العصبي عند الشدائد ، وهو ما يعاني من جانب من أفراد المجتمعات في العصر الحاضر الذي ترك بعض أفراده التمسك بحبل الله المتين ، ولم يفهموا الوظائف التي خصهم الله بها الفهم الصحيح كما أنهم تاهوا وهو ينظرون إلى ما يتمتعون به من نعم ، فظنوا أن زوالها عنهم فيه من الظلم والقهر ما تنوء بحمله الجبال.
    وتخريج الإمام البخاري لهذا الحديث في كتاب الاعتصام دليل على هذا الجانب التربوي الذي جاء في الحوار الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وإحدى نساء المسلمين ،والذي نشأ عن قوله عليه الصلاة والسلام : ما منكن تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار فقد تطلعت إحدى الصحابيات إلى فضل الله تعالى فسألت عن نصيب من قدمت اثنين من الأبناء ولعل منهم من ودت السؤال عن نصيب من قدمت واحداً فقط ، وجاء الجواب النبوي مبيناً أن حكم الاثنين لا يختلف عن الثلاثة ،جاء في رواية كتاب الاعتصام أن السائلة كررت سؤالها مرتين ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجابها بقوله (واثنين واثنين واثنين) واستنتج عياض وابن التين أن مفهوم العدد في الأرقام المذكورة ليس مراداً لذاته ،إذ إن مفهوم الحديث هو بيان الجزاء الذي أعده الله تعالى لمن وقى نفسه من الشح.
    قال تعالى : (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (48)
    علم الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة هذه المعاني وغيرها ، كما فعل ذلك مع الرجال لأن الإسلام لا يميز بين الرجل والمرأة في هذا الحق فهما يشتركان فيه مهما كانت مكانتهما الاجتماعية ، فالأمة لا تختلف في ذلك عن ربتها ففي باب تعليم الرجل أمته وأهله ،أخرج البخاري عن أبي بردة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (ثلاثة لهم أجران : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها ، فأحسن تعليمها ثم اعتقها فتزوجها فله أجران (49)
    فالقدرة على التعليم عند الأمة لا تختلف عما هي عليه عند ربتها أو سيدتها فقد وهبها الله تعالى أجهزة لا تختلف عن أجهزتهم لتحصيل العلم الذي يرفع من درجة صاحبه ،فالإسلام وإن أقر العبودية الناتجة عن الضرورة الاقتصادية إلا أنه ألغى العبودية المتصلة بحق الحياة وحق العقيدة وحق التفكير والتعلم.
    فالناس سواسية في هذه الحقوق ، وكلهم مطالبون بتعلم ما به يحفظ الدين ، فقد أخرج الإمام أحمد بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (فيكم كتاب الله يتعلمه الأسود والأحمر والأبيض تعلموه قبل أن يأتي زمان يتعلمه ناس لا يجاوز تراقيهم ويقومونه كما يقوم السهم فيتعجلون أجره ولا يتأجلونه (50)
    فكل مسلم مطالب بأن يتعلم القرآن ويتدبره وينشره حتى يحول دون التعلم الأبتر والفهم القاصر ، لا فرق في ذلك بين أسود وأحمر أبيض ، ولا بين شيخ وشاب.
    فالعلم حق مشاع قد ينبغ فيه الصغير قبل الكبير، وقد يصبح الأول أعرف من الثاني وأقدر على التبليغ والبيان ،والأمثلة كثيرة في حياة الصحابة والتابعين نكتفي بالإشارة إلى ما كان عليه حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الغلام الذي تعلم علم أحد الرهبان بأنه علم علماً ما علمه أحد (51)
    إن مبدأ شيوع العلم وكونه حقاً يتمتع به كافة الناس ، لا يستقيم إلا إذا كان العلم من الأمور المكتسبة ،وهذه هي الخاصية الثالثة للعلم.
    (3) العلم اكتساب :
    إن المتدبر في التوجيهات الإسلامية المتصلة بالعلم يلاحظ أن العلم البشري لا يكون إلا عن طريق الكسب ، فلا وجود لعلم يأتي عن طريق الوراثة ولا عن طريق النور الذي يقذف في القلب فالعلم عملية اكتسابية لا تكون إلا باستخدام الأجهزة التي خلقها الله في الإنسان وطلب منه أن يستخدمها إن هو أراد أن يخرج من الجهل إلى العلم والأدلة على ذلك كثيرة منها :
    أ‌- أن الأنبياء رضي الله عنهم كانوا يستخدمون الوسائل والأجهزة البشرية ، للحصول على العلم الذي لا ينزل عليهم وحياً ، فالوحي قد دعاهم إلى ذلك ، فموسى عليه السلام ، قام خطيباً بني إسرائيل ، فسئل أي الناس أعلم ، فقال : أنا أعلم ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك قال : يا رب وكيف به ؟ فقيل له أحمل حوتاً في مكتل ، فإذا فقدته فهو ثم فانطلق وانطلق بفتاه يوشع ابن نون ، وحملا حوتاً في مكتل ، فإذا فقدته فهو ثم فانطلق ،وانطلق بفتاه يوشع بن نون ، وحملا حوتاً في مكتل حتى كانا عند الصخرة وضعا رأسيهما وناما فانسل الحوت من المكتل فاتخذ سبيله في البحر سرباً ،وكان لموسى وفتاه عجباً. فانطلقاً بقية ليلتهما ويومهما كما أصبح ،قال موسى لفتاة آتنا غدائنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً ، ولم يجد موسى مسا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به فقال له فتاه ، أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، قال موسى ذلك ما كنا نبغي ، فارتدا على آثارهما قصصاً ، فلما انتهيا إلى الصخرة إذا برجل مسجى بثوب أو قال تسجى بثوبه فسلم موسى فقال الخضر وأنى بأرضك السلام ؟ فقال أنا موسى فقال موسى نبي بني إسرائيل ؟ قال : نعم ، قال : هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً ؟ قال : إنك لن تستطيع معي صبراً يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم علمكه لا أعلمه قال ستجدني إن شاء الله صابراً ، ولا أعصى لك أمراً (الحديث) (52)
    فهذا الحديث الطويل الذي له أصل في القرآن الكريم يبين :
    أولاً : أنه لا يسمح للإنسان مطلقاً أن يدعي أنه أعلم الناس وأنه وصل إلى درجة من العلم لم يصل إليها غيره من البشر.
    فهذا الحديث الطويل الذي له أصل في القرآن الكريم يبين :
    أولاً – أنه لا يسمح للإنسان مطلقاً أن يدعى أنه أعلم الناس وأنه وصل إلى درجة من العلم لم يصل إليها غيره من البشر.
    ثانياً : أن الأنبياء إلى جانب الوحي المنزل عليهم والذي يخرج عن العلم المكتسب يتمتعون بما يتمتع به سائر البشر من قوى تمكنهم من تحصيل العلم وأنهم مدعوون أحياناً إلى استخدام هذه القوى ، وبذل الجهد للحصول على علوم لا تنزل عليهم تنزيلاً.
    فموسى عليه السلام قد لاقى في رحلته من النصب ما لاقى واستخدم من الوسائل ما استخدم إلى أن وصل إلى العبد الصالح الذي اشترط عليه شروطاً تتطلب صبراً جميلاً وقدرة على مقاومة ما ركب في النفس من ميل إلى التسرع في معرفة الأسباب والمسببات.
    والعبد الصالح كان في حاجة إلى السؤال ليعلم أن الذي يخاطبه هو موسى عليه السلام : قال ابن حجر وفيه ( الحديث) دليل على أن الأنبياء ومن دونهم لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله إذا لو كان الخضر يعلم كل غيب لعرف موسى قبل أن يسأله (53)
    ب‌- جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله (54)
    فقوله إنما أنا قاسم يفيد أنه يعلم الناس دون أن يميز بين هذا وذلك ، أما قوله (والله يعطي ) فيشير إلى أن ما يحصل عليه هذا الطالب يختلف عما يحصل إليه ذلك وهذا مرده إلى أن الله تعالى أعطانا ما بفضله نحصل على العلم ، ولكن طريقة استخدامنا لما أعطانا الله تعالى تختلف كما تختلف ظروفنا وحالاتنا النفسية فعملية التعلم إذن تستدعي أمرين : البذل والسعي مع طلب التوفيق من الله تعالى وهذا ما أشار إليه ابن حجر في شرحه عندما بين أن في الحديث إثبات الخير لمن تفقهه في دين الله ، وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط بل لمن يفتح الله عليه به (55)
    فلا خلاف بين ما قاله ابن حجر وبين قولنا إن العلم لا يكون إلا عن طريق الكسب ، فإننا نعلم أن هذا الأخير شرط ضروري في كل عمل يقوم به الإنسان ولكنه ليس بكاف فهو في حاجة إلى توفيق الله وفضله.
    ج- جاء في تعليق للبخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال : ومن سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة (56)
    فهذا يشير إلى أن العلم يفرض على صاحبه أن ينتقل من مكان إلى مكان آخر ، وأن يرحل من بلد إلى أخر ، إذا لزم الأمر ، وذلك للأخذ عن العلماء ،فالعلم لا يكون إلا بالتعليم أي بإرادة إنسانية محاطة بالعناية الإلهية.
    فقد روى عن عبدا لله بن مسعود أنه كان يقول : فعليكم بهذا القرآن فإنه مأدبة الله فمن استطاع منكم أن يأخذ من أدبة الله فليفعل فإنما العلم بالتعلم (57)
    د – لم يصدر عن الصحابة رضي الله عنهم ما يشير إلى أنهم تعلموا دون أن يجلسوا في مجالس العلم فعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتناوب هو جار له الأنصار في النزول إلى المجلس النبوي للتعلم وكثير من الأحاديث ذكرت أن بعض الصحابة كان يجلس لدى البعض الآخر ليتعلم منه ، ففي الحديث الطويل الذر رواه عمر بن الخطاب أن نساء المهاجرين كن يتعلمن من نساء الأنصار.(58)
    والمتدبر في الحديث يستنتج أن المتعلمات كن يمارسن وسائل التعلم ،فهن يسألن ويراجعن ويبذلن ما في وسعهن للخروج من الجهل والتمتع بنعمة العلم.
    هذه النعمة التي لا تختلف عن نعم الله تعالى في ضرورة كسبها والحصول عليها عن طريق الجهد البشري الذي هو في حاجة إلى رحمة الله تعالى وفضله ولطفه بعباده.
    إن استمرارية العلم وعمومه وكسبه تولدت عنها قضايا تتصل بالدعوة إلى نشره والتحذير من كتمانه ، وبمطالبة أهله بأن يبذلوا ما في وسعهم للمحافظة عليه وصيانته.
    وحتى يتيسر هذا وذاك ، فلا بد من اتباع الطرق التعليمية الناجحة التي تساعد على نشر العلم ونمائه وتطوره.
    الطرق التعليمية
    منذ القديم وطريقة التعليم تحتل مكانة مهمة في كل عملية تهدف إلى نقل المعلومات وتزكيتها واستخدامها ،فقد اهتم بها أصحاب المدارس التربوية والفلسفية ، فالمثاليون (59) لهم طريقتهم في التربية ولهم أساليبهم وذلك الشأن لمن وصفوا بالواقعية (60) ولمن عرفوا بالبراجمتيه (61) وغير هؤلاء وأولئك منتشرة طرقهم في كتب تاريخ التربية وفلسفتها.
    ومما يلفت النظر أن الذين تحدثوا عن الطرق التربوية الإسلامية غاب عنهم أن يعودوا إلى الأحاديث النبوية ، وأن يستقرئوها ويحللوها ويستمدوا منها الأساليب والوسائل التي أتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ويعلم جيل الصحابة ليخرجهم من ظلام الأمية إلى نور العلم وحلاوة الإيمان ،غاب عن مؤرخي التربية الإسلامية أن السنة النبوية وهي التي نزلت نصوص القرآن الكريم إلى الواقع العلمي قد سلكت طريقة تربوية لها أسسها التي يميزها عن غيرها من ال
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة : سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التعليمية وأثرها في تطور العلوم 710
    عارضة الطاقة :
    سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التعليمية وأثرها في تطور العلوم Left_bar_bleue90 / 10090 / 100سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التعليمية وأثرها في تطور العلوم Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

    سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التعليمية وأثرها في تطور العلوم Empty رد: سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التعليمية وأثرها في تطور العلوم

    مُساهمة من طرف Admin الخميس فبراير 17 2011, 10:27

    سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التعليمية وأثرها في تطور العلوم

    الجزء الثاني

    الطرق التعليمية
    منذ القديم وطريقة التعليم تحتل مكانة مهمة في كل عملية تهدف إلى نقل المعلومات وتزكيتها واستخدامها ،فقد اهتم بها أصحاب المدارس التربوية والفلسفية ، فالمثاليون (59) لهم طريقتهم في التربية ولهم أساليبهم وذلك الشأن لمن وصفوا بالواقعية (60) ولمن عرفوا بالبراجمتيه (61) وغير هؤلاء وأولئك منتشرة طرقهم في كتب تاريخ التربية وفلسفتها.
    ومما يلفت النظر أن الذين تحدثوا عن الطرق التربوية الإسلامية غاب عنهم أن يعودوا إلى الأحاديث النبوية ، وأن يستقرئوها ويحللوها ويستمدوا منها الأساليب والوسائل التي أتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ويعلم جيل الصحابة ليخرجهم من ظلام الأمية إلى نور العلم وحلاوة الإيمان ،غاب عن مؤرخي التربية الإسلامية أن السنة النبوية وهي التي نزلت نصوص القرآن الكريم إلى الواقع العلمي قد سلكت طريقة تربوية لها أسسها التي يميزها عن غيرها من الطرق.
    أسس طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية :
    إلى جانب اتصافها بكل ما يميز الرسول صلى الله عليه وسلم عن سائل البشر من وحي وعصمة غيرهما من صفات النبوة ، فإن في طريقته عليه الصلاة والسلام جوانب بشرية تظهر تكامل الجانبين النبوي والبشري في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، فطريقته التعليمية تعتمد على أسس نذكر منه :
    1- الاستدلال العقلي :
    روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) (62).
    ذهب بعضهم إلى أن الظن الوارد في الحديث هو التهمة التي لا سبب لها واستدلوا على ذلك بأن آخره جاء لينهي عن التجسس والتحسس وما شبهما.
    وأكدوا ما ذهبوا إليه بقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً) (63)
    وذهب البعض الآخر إلى أن المقصود بالظن في الحديث هو ما لا يصل إلى اليقين لذلك حرموا الاجتهاد.
    إلا أن اغلب الشراح رفضوا التأويل المتقدم وقالوا إن المقصود هو الظن المجرد عن الدليل ، أما ما كان مبيناً على أصل أو على دليل فهو ظن شرعي.
    وهذا التأويل الأخير هو الذي يطمئن إليه الباحث لأنه يذم سلوكاً يحرم العقل من القيام بدوره في تحصيل العلم إذ يخضعه لمؤثرات شكلية مثل الحسد والتجسس والتحسس تبعده عن الاستدلال وتمكن الشياطين من أن تجتاله وتحجب عنه الحقيقة.
    إن الاستدلال العقلي يتطلب من الإنسان أن يكون قوي الشخصية ، وأن يهيئ نفسه للعلم وأن يبتعد عن التقليد السلبي ، فالقرآن الكريم فقد الذين يقولون (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) (64)
    والرسول صلى الله عليه وسلم ، خاطب المسلمين ، فقال : لا تكونوا إمعة ، تقولون أن أحسن الناس أحساناً ، وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطنوا أنفسكم ، إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساءوا فلا تظلموا(65)
    إن حمل النفس على معرفة الظلم والإحسان والتفريق بينهما يستدعي إعمال العقل وإقامة الدليل والبرهان ، فالتقليد السلبي والاحتماء بما يفعله الآخرون يطمسان وظيفة العقل ، ويوقعان الإنسان في خطأ ويحجبان النظر الفاحص والتأمل الهادف فيصبح من يمارسهما عاجزاً عن النظر في نفسه وفي ملكوت السماوات والأرض فيصاب بالجهل حتى وإن كان قارئاً كاتباً.
    وهكذا يتضح أن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم في التعليم تدعو إلى الاستدلال العقلي وتسليط النظر والفكر على ما يراد بلوغه وترسيخة والمحافظة عليه من علوم، ولكن هذا الاستدلال قد يحتاج إلى عمليات تسبقه أو تصاحبه ومنها التجربة.

    التجربة :
    يمر الإنسان في الحياة بتجارب متعددة ، فإذا استقرأها واستثمرها فإنها تساعده على أن يتعلم لذلك يقال: فلان حنكته التجارب وذهب بعض العلماء التربية والتعليم إلى أن العلم لا يكتسب ، وأن المعرفة لا تنمو إلا بفض التجارب المتنوعة.
    والمتتبع أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله يلاحظ مكانة التجربة في سياسته التعليمية ، فقد روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا حليم إلا ذو عثرة ولا حكيم إلا ذو تجربة) (66) وأخرج الإمام البخاري الجزء الثاني من الحديث موقوفاً على معاوية ابن أبي سفيان ضمن عنوان باب من أبواب كتاب الأدب ، قال : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، وقال معاوية لا حكيم إلا ذو تجربة ، ثم خرج حديث أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وجاء فيه أنه قال : (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) (67)
    فهذه النصوص تبين :
    أ‌- أن التجربة تقي المؤمن من أن يلدغ من حجر مرتين ،فهي تكسبه مناعة تحميه من الوقوع في الخطأ الواحد مرتين ،وتجعله يستنتج الأحكام من التجارب ،ثم يعممها على المسائل المتماثلة.
    ب‌- يصبح الإنسان بفضل التجارب حكيماً لأن ما تحصل عليه من علوم لم يكن عن تقليد سلبي ، ولا عن طريق حشو الفكر بالمعلومات أو تجميع الكتب والكراريس ، ولكن بأخذ علوم المتقدمين ونقدها وإدراك مقاصدها والانطلاق منها لمتابعة ما شرعوا فيه وتطويره وحمايته من أن يصبح قوالب جامدة أو نظريات ما ورائية ، فنهاية المتقدم بداية للمتأخر.
    ت‌- لا مانع من أن يتعثر الإنسان في تجاربه فيخطئ تارة ويصل إلى طريق مسدود أخرى ، ولكن العالم هو الذي يتغلب على العثرات ويتعلم منها ، ومن شروط ذلك ألا يتشبث بما ظنه حقيقة إذا أظهرت التجربة خلافة.
    فقد روى الإمام مسلم عن موسى بن طلحة عن أبيه قال : مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقوم على رؤوس النخل ، فقال : (ما يصنع هؤلاء ؟ فقالوا : يلحقونه ، يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما أظن يغني ذلك شيئاً) قال فأخبروا بذلك فتركوه ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه ، فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني الظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به ، فإني لن أكذب على الله عز جل (68)
    ثم ذكر مسلم روايتين لهذا الحديث جاءت الأولى عن رافع بن خديج وزادت على المتقدمة أن النخل نفضت أو نقصت وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لما ذكروا له ذلك : إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر (69)
    أما الثانية فرواها من الصحابة أنس وعائشة رضي الله عنهما وجاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم ، مر بقوم يلحقون فقال (لو لم تفعلوا لصلح) قال فخرج شيصا فمر بهم فقال : ما لنخلكم قالوا : قلت كذا وكذا ، قال أنتم أعلم بأمر دنياكم (70)
    فهذا الحديث برواياته المتقدمة يبين أن الإيمان بالنص المنزل وحياً متلوا أو مروياً لا يتوقف على التجربة ولا على غيرها من الوسائل البشرية، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به أي صدقوا به دون أن تجعلوا التجربة أو غيرها يتحكم في حصته ،ولكن لا مانع من أن تنطلقوا من هذا النص لتقوموا ببعض التجارب التي تعين على فهمه والوقوف بقدر الطاقة الإنسانية ، على مقاصد الشرع منه ، أو استثماره الاستثمار الحسن ، ولهذا السبب يمكن للمسلم أن يخضع ما جاء في الآيات والأحاديث الصحيحة للتجارب حتى يفهمها الفهم الصحيح ، أو يستنبط ما أشارت إليه من علم ومعرفة ،وإلى جانب ذلك فقد دل الحديث على أن الظن الشريع وهو الذي يكون مع الدليل والبرهان قد يزول بفضل النص النقلي ، ويتضاءل بواسطة الدليل العقلي أو التجربة ف الرسول صلى الله عليه سلم ظن ظناً مشروعاً قد يكون منطلقه قوله تعالى : (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ) (71) واجتهاد اجتهاداً يعلم أنه محمي الوحي ، أن كان بالأمكان أن ينزل عليه ما يعدل به اجتهاده هذا ، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت أن تترك ذلك الاصلاح للتجربة فالصحابة رضي الله عنهم قد جربوا تأبير النخل وعدمه لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً) وأدركوا أن الخير مع التأبير ، وأدرك الرسول صلى الله عليه وسلم ، ذلك وتعلمه من التجربة فقال لهم (إذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) أي إذا أمرتكم بشيء لم ينزل فيه وحي فإن التجربة يمكن استخدامها واللجوء إليها لبيان مطابقته للواقع.
    وهكذا يتضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطلق عن الهوى فالوحي يعصمه العصمة المطلقة من الخطأ في تبليغ ما نزل عليه وحياً متلوا أو مروياً ، وفي تشريع الاحكام ، أما في العلم البشري فإنه عليه الصلاة والسلام معصوم من الخطأ بمعنى أنه لا يستمر عليه وعدم الاستمرار ذلك مصدره الوحي تارة والتجربة والمشورة تارة أخرى.
    والتجربة التي اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليمه تعتمد على ما يمر بالإنسان من أحداث كما تنطلق من مشاهداته وحواسه فتطلب منه أن يجمع المعلومات ويتأمل فيها ويستقرئها الاستقراء الموضوعي.
    فقد جاء رجل من بني فزارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن امرأتي ولدت غلاماً أسود وإني انكرته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هل لك من إبل ؟ قال نعم قال : فما ألوانها ؟ قال حمر قال هل فيها من أورق ؟ قال إن فيها لورقاً قال : وهذا عسى أن يكون نزعة عرق (72)
    فقد استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا الرجل طريقة حوارية تجعله يعود إلى التجربة التي يعيشها يومياً لينظر ويتأمل ويدقق ويقيس الأشياء بنظائرها ، فبصل بذلك إلى الحكم الصحيح والعلم الذي يطمئن إليه القلب فيزول عنه شك جعله ينكر أن تلد امرأته غلاماً مالت بشرته إلى السواد.
    لم يحدث الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل عن القوانين الوراثية ، أو عن قدرة الله في أخراج الأسود من الأبيض ، ولكنه جعله يستخلص من ملاحظاته الخطأ الذي وقع فيه فبفضل الملاحظة والاستنتاج السليم عادت الطمأنينة إلى قلب الرجل ونزع ما في نفسه من ظن لا دليل عليه.
    وإذا كان جمع المعلومات وملاحظتها واستقراؤها من الأمور التي احتلت مكانة مهمة في طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية فإن حاستي السمع والبصر قد وقع التركيز عليهما لأنهما من أهم الوسائل التي تحقق ذلك فقد جاء في بعض الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكرر ما يصدر عنه ثلاثة مرات، فقد عقد البخاري في كتاب العلم باباً بعنوان : من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم عنه قال ألا وقول الزور فما زال يكررها ثم ذكر حديث ابن عمر معلقاً وجاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : هل بلغت ثلاثاً ،وبعد ذلك خرج ثلاثة أحاديث متصلة السند ذكر أولها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم ، سلم ثلاثاً وإذا تكلم بكلمة أعددها ثلاثاً ، وجاء الحديث الثاني مطابقاً للأول إلا أنه أضاف أن هدف هذا التكرار هو التعليم ، أما الحديث الثالث فرواه عبدالله بن عمر وجاء فيه : تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ، ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادي بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً (73)


    فما جاء في أحاديث الباب يبين :

    أ‌- أن التكرار الذي مارسه الرسول صلى الله عليه وسلم تكرار هادف غايته الفهم، فأول مراحل هذا الأخير تتمثل في السماع السليم الذي بواسطته تصل المعلومات إلى الفكر ، لذلك نجد القرآن الكريم كلما قرن بين حاستي السمع والبصر بدأ بالأول.
    وأثبتت الطرق التربوية الحديثة دور السمع في التعليم ، فصنعت الآلات التي تزيد في قدرة هذه الحاسة على استيعاب ما يلقي عليها وأقامت مخابر اللغات التي تخضع المتعلمين لما يسمى (بالحمام الصوتي) الذي يتمكن بفضله المتعلمون من النطق السليم نتيجة للسماع الجيد والمعلمون في المدارس مطالبون في طرق التعليم الحديثة ، بأن يكرروا ما ينطقون به على مسامع طلبتهم حتى تعم الفائدة وترسخ المعلومات.
    ب‌- كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكرر كلامه لتأكيد بعض الأحكام الشرعية والتنبيه إليها فمناداته عليه الصلاة والسلام بأعلى صوته أن ويل للأعقاب من النار تأكيد على أن غسل الأرجل في الوضوء من الفرائض ، فلا يمكن التساهل فيه لسبب غير شرعي.
    هذه هي مكانة السمع في طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية وتليها مكانة البصر ، فقد كان عليه الصلاة والسلام يستعين بالإشارة لتوضيح بعض المعلومات ويختار المكان المرتفع ليعلم ويرشد ويهدي والهدف من ذلك هو مساعدة المتعلمين على مشاهدة حركاته وإشاراته وما يرتسم على وجهه عليه الصلاة والسلام من ملامح ،ففي باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس خرج البخاري ثلاثة أحاديث تضمن آثنان منها إشارات.
    فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في حجته ، فقال : ذبحت قبل أن أرمي فأومأ بيده ، قال : ولا حرج قال : حلقت قبل أن أذبح ، فأومأ بيده ، ولا حرج (74)
    وروى أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن ، ويكثر الهرج قيل يا رسول الله وما الهرج ؟ قال هكذا بيده ، فحرفها كأنه يريد القتل (75)
    لقد صدر الحديث الأول في حجة الوداع ، وقد اجتمع فيها جمع كبير من الصحابة ، رضي الله عنهم ، يتعذر تبليغهم العلم والجواب عن أسئلتهم عن طريق السمع فقط فلما سئل عليه الصلاة والسلام استعان بالإشارة اليدوية ليجيب بطريقة مرئية تستطيع العين أن تبلغ محتواها إلى العقل فيفهم مدلولها.
    ولا تترك مجالاً للشك في بعض النفوس ، فلا يظن أحد أنه سمع مقطعاً من جواب الرسول صلى الله عليه وسلم دون الآخرين الذين لبعدهم فاتهم ما سمع ، فالإشارة في مثل هذا الظرف أسلم للتبليغ ، والبصر هنا أقدر من السمع على الاستيعاب.
    أما الحديث الثاني فصدر في مجلس من مجالسه عليه الصلاة والسلام، فالسمع الجيد فيه ممكن ،ولكن الإشارة أبلغ ومدلولها أرسخ ، فالشرح اللفظي والتفصيل البياني لتعريف الهرج والمرج قد لا يؤثران في النفوس ثأثير الإشارة المعبرة التي لن ينساها من شاهدها، ولن تغيب عن الأبصار مهما تباينت المواقف.
    وهكذا تتضح مكانة السمع والبصر في طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية التي تقوم على التجربة ،وتستعين بالحواس ،وتطلب من الإنسان أن يكون أميناً في حصوله على العلم وفي نقله ،وفي استثماره بطريقة شرعية.
    الأمانة العلمية :
    لا خلاف بين العلماء في أن العلم لا يبني ولا يتقدم ولا يصل إلى النتائج المرجوة إلا إذا سلم من الأخطاء بصفة عامة ، والمتعمد منها بصفة خاصة ،لذلك كان مبدأ الأمانة العلمية من القواعد الأساسية التي يحافظ عليه العلماء والإسلام سباق إلى هذا المبدأ ،فقد دعت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلى توخي الصدق والأمانة وحذرت من الكذب ،وبينت أنه يؤدي إلى النار ،وأن صاحبه إذا مارسه وزاوله يكتب عند الله كذاباً فقد روى عبدالله بن مسعود عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً (76)
    وإلى جانب التحذير من الكذب بصفة عامة ، شدد الرسول صلى الله عليه وسلم عقاب من تعمد الكذب عليه ذلك أن النوع من الكذب يمس مصدر العلم فيحرم العقل من الاستقراء السليم ومن الفهم المطابق لمقاصد الشريعة ،ولسنن الله في الكون ، إنه كذب يحول العلم إلى جهل والهدى إلى ضلالة ، لذلك أكدت الأحاديث على أن يختلف عن الكذب الذي لا صلة له بمصدر العلم، فقد روى المغيرة بن شعبة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن كذباً علي ليس ككذب على أحد من كذب على معتمداً فليتبوأ مقعدة من النار (77)
    وحتى يلزموا ناقل العلم بنسبته إلى صاحبه وبتمرين نفسه على الدقة والأمانة ، استخدم علماء المسلمين الإسناد الذي امتازت به أمة الرسول صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم ، ولا نريد في هذا البحث مناقشة الشبهات التي أثيرت حول ظهور الإسناد وأهدافه وما قدمه للعلوم من خدمات ، ولكنا نريد أن نخلص إلى النتائج التالية :
    (أ‌) نشأ الإسناد في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم.
    (ب‌) استخدمه بعض الصحابة ولذلك وجدنا بعض الأحاديث يرويها صحابي عن آخر كما وجدنا علماً من العلوم الحديث يهتم بمراسيل الصحابة رضي الله عنهم.
    (ت‌) أصبح الإسناد بعد ظهور الفتنه الكبرى شرطاً من شروط نقل الحديث ولم يكن بالشرط الوحيد ولا الكافي.
    (ث‌) أسهم الإسناد في مقاومة الكذابين على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى العلماء ، فأخذ به غير المحدثين.
    وسائل الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية :
    لم تكن أسس سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية مجرد نظريات أو تصورات ذهنية ولكنها طبقت عملياً وذلك بواسطة وسائل متنوعة نذكر منها :
    (أ‌) الحوار
    مكن الرسول صلى الله لعيه وسلم الصحابة رضي الله عنهم من التعبير عما يجول بذهنهم حتى عند تلقي الوحي.
    فقد أخبر زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أملي عليه : لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي قال يا رسول الله ، والله لو أستطيع الجهاد معك لجاهدت ، وكان أعمى.
    فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ، ثم سري عنه فأنزل الله (غير أولي الضرر) (78)
    فهذا من الجدل المقبول ، وذلك أن عبدالله بن أم مكتوم لم يهدف إلى معارضة النص المنزل أو التشكيك فيه أو الاحتجاج عليه وإنما كان يود أن يعلم عملاً يستطيع القيام به مكان الجهاد ويناسب قدراته الجسمية فيؤجر أجر المجاهدين ، ويؤكد هذا المعنى ما جاء في رواية البراء بن عازب من أن عبدالله ابن أم مكتوم جاء (فشكا ضراراته) (79) وما جاء في رواية غير البخاري عن قبيصة من أنه قال:إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما ترى : ذهب بصري (80).
    ولم يجب الرسول صلى الله عليه وسلم ، عبدالله بن أم مكتوم بل ترقب الوحي الذي نزل ليستثني أولي الضرر من (القاعدين على المؤمنين) استثناء فيه (عدول عن الاعتماد على القرينة إلى التصريح باللفظ) (81)
    والمتتبع للأحاديث النبوية يلاحظ أمثلة للحوار الذي كان يدور بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة أو بينه وبين من أتوه مستفسرين عن الدين ، أو بينه وبين خصوم الدين.
    فهذا أعرابي يدخل على الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول أيكم محمد ؟
    ثم يحاور الرسول صلى الله عليه وسلم ليتأكد من أنه عليه الصلاة والسلام بعث للناس أجمعين ، وأن الله أمر العباد بأن يصلوا خمس صلوات في اليوم والليلة وأن يصوموا شهر رمضان وأن يخرجوا الزكاة. (82)
    وهذا فتى من قريش يدخل على الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلسه ويقول : يا رسول الله أئذن لي في الزنا فأقبل القوم عليه وزجروه فقالوا : مه !!
    فقال : أدنه فدنا منه قريباً ، فقال : أتحبه لأمك ؟ قال لا والله ، جعلني الله فداك قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم قال : أفتحبه لأبنتك ؟ قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك ، قال ولا الناس يحبونه لبناتهم ، ثم ذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اخته وعمته وخالته وفي كل ذلك يقول الفتى مقالته ، لا والله جعلني الله فداك (83)
    لقد حاور الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الشاب وجعله يقف على الخطأ الذي وقع فيه ويدرك أن الزنا فيه هضم لجانب الفرد والمجتمع ، وأن الله تعالى حرمه لحماية الجماعات والأفراد ، توصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بطريقة حوارية ما كان الحاضرون يتبعونها ، فلو ترك الأمر لهم لاستخدموا الزجر والعقاب ولكن الهداية النبوية جعلتهم يدركون أن العلم والتربية يقومان على أسس منها بعث الطمأنينة في نفس المتعلم ، ثم محاورته فقد شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم يدني السائل إليه ويقربه منه ،وذلك حتى يرتاح إليه فيشعر بأن معلمه يريد به خيراً ولا يقيم بينه وبين الحواجز والعوائق.
    قال عليه الصلاة والسلام للشاب : أدنه ، ثم حاوره.
    لم يخص الرسول صلى الله عليه وسلم بالحوار المسلمين فقط بل اتبعه مع أعداء الإسلام كاليهود وحواره مع أهل خيبر وغيرهم منتشر في كتب الصحاح ودواوين السنة.
    السؤال :
    جاءت في كثير من الأحاديث أسئلة تنوعت مصادرها والذي يهمنا منها هو الذي كان مصدره الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإذا استقرأنا جانباً من هذا النوع اتضح لنا أن السؤال النبوي استخدم لثلاثة أهداف.
    الأول (التنشيط) فالرسول صلى الله عليه وسلم ، كان يستخدم الوسائل التي تجعل المتعلم مقبلاً على الدرس ساعياً إلى المعرفة ، قال عبدالله ابن مسعود : لمن طلب منه أن يعلمهم كل يوم : (وأما أن يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا (84)
    وإلى جانب توزيع أوقات العلم توزيعاً محكماً يبعد عن المتعلمين السآمة ، كان عليه الصلاة والسلام يلقي عليهم أسئلة تنشط أذهانهم وتفتح أبصارهم وتعين على ترسيخ المعلومات في عقولهم فالجواب من الأسئلة هو في الواقع واضح ومن شدة وضوحه تشرئب الأعناق إلى صاحبه ظانة أنه سيأتيهم بأمر جديد لم يتعودوا عليه ولم يتقدم لهم وإذا الجواب يتكون من جزئين : أحدهما معلومة لا تختلف عما جال بذهن المستمعين ولما هو معلوم لديهم ، والآخر حكم شرعي هيئت له الظروف ليعلق بالأذهان ،فهو يشمل أسساً بني عليها الدين، وقامت عليها الشريعة روى أبو بكرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه ثم قال أي يوم هذا ؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه قال أليس يوم النحر ؟ قلنا : بلى قال : فأي شهر هذا ؟ فسكتنا حتى ظننتا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس بذي الحجة ؟ قلنا : بلى قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبغ من هو أوعى له منه (85)
    فالأسئلة التي ألقاها الرسول صلى الله عليه وسلم في الجمع الغفير من الصحابة الذين حضروا حجة الوداع لم تكن للمراقبة أو للتدرج بهم إلى استنباط قاعدة من القواعد ، بل كانت كمنبه ومهيء تجعل المتطين متشوفين منصتين يترقبون ما سيقال لهم وما سيلقى على مسامعهم من توجيهات فالمكان البارز الذي استقر به الرسول صلى الله عليه وسلم والأسئلة المتنوعة والمهل الزمنية التي فصلت بين الأسئلة أمور جعلت الحاضرين آذاناً صاغية وعقولاً متفتحة ومدارك مهيأة لتعي أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم مصانة لا يجوز لأحد أن يعتدي عليها أو ينالها بسوء ،فهذه العناصر التي حماها الدين وأحاطها برعايته هي الدعائم التي تقوم عليها كل حياة اجتماعية وهي الأسس لكل تقدم علمي وحضاري ،فلا وجود لمجتمع بدون أفراد ، ولا مكانة لتقدم بدون ما ولا طمأنينة لعالم أو لغيره بدون كرامة وحفظ للعرض ، فلا عجب إذا اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم احتياطات استثنائية وهو يبلغ المسلمين هذه الثوابت التي يقوم عليها نظام المعاملات في الإسلام ،ولا عجب إذا رأيناه عليه الصلاة والسلام يترك للسامعين فرصة للتفكير ، وتجميع المعلومات والتهيئو لسماع الجواب وتعلم الأصول فالمهلة التي كانت بين سؤال وآخر كان الغرض منها (الاستحضار فهو مهم وليقبلوا عليه بكليتهم وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه) (86)
    فالوسيلة التي استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم للوصول إلى هذا الهدف هو السؤال التنشيطي الذي إذا ما استخدمه المربي والداعية استخداما حسناً ضمن استعداد قوى المتعلمين الذهنية والحسية للتلقي والفهم والإدراك.
    الثاني (الاستنتاج) مرت بنا أحاديث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتدرج بالمتعلم في الأسئلة ليجعله يقر بحقيقة علمية أو تستنتج حكماً أو مقصداً يفهم مقصداً من مقاصد الشريعة (87)
    الثالث (التقويم والمراقبة) : جاءت بعض أسئلة الرسول صلى الله عليه وسلم لتحدد مقدار العلم الذي اكتسبه الصحابة رضي الله عنهم.
    فقد خرج الإمام البخاري في أبواب متفرقة من كتاب العلم حديث عبدالله عمر الذي جاء فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم ، فحدثوني ما هي فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد الله ووقع في نفسي أنها النخلة ، فاستحييت ، ثم قالوا : حدثنا ما هي رسول الله قال : هي النخلة (88)
    أ‌- أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل الصحابة عن شجرة لا يسقط ورقها ولا تخفي بركتها ومشهورة بالصبر وعلو المكانة في المجتمع العربي في ذلك الوقت
    وسؤاله ذلك يهدف إلى المراقبة والاختبار وتوجيه النظر وحث الناس على التأمل والتدبر والمقارنة واستخلاص العبر ، فالمجيب من الصحابة عن هذا السؤال يعد من الذين اكتسبوا جانباً من العلم والمعرفة ، لذلك تمنى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لوترك ابنه الحياء وأجاب بما وقع في نفسه
    ب‌- أن الرسول صلى الله عليه وسلم المعلم الرفيق بالمتعلمين الميسر عليهم الأمور الآخذ عليهم الأمور الآخذ بيدهم ، الغاضب على من يعسر عليهم أو يخاطبهم بما لا يفهمون أو يكلفهم ما لا يطيقون لم يتعجب من توقف الصحابة رضي الله عنهم فقد أدبه ربه فأحسن تأديبه وأبعده عن القسوة والغلظة قال تعالى : (ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك) (89) بل أجابهم وعلمهم وجعلهم يدركون أن الإنسان مهما بلغ علمه فإنه يبقى ناقصاً وفي حاجة إلى التعهد ، كما بين لهم أنه لا حياء في العلم.
    بهذه الطريقة المتكاملة التي ذكرنا بعض جوانبها وبفضل المؤسسات التعليمية التي أقيمت بالمدينة المنورة كالمسجد والصفة والكتاب ودار القراء هيأ الرسول صلى الله عليه وسلم لسياسته التعليمية القائمة على أصول محكمة أن تخرج العرب وغيرهم من الأمية ،وأن تمكن العلوم من التقدم والنماء والتطور.
    أثر السياسية النبوية في تقدم العلوم :
    1- اتساع دائرة العلوم :
    لقد بينا في المدخل أن العرب في جاهليتهم كانوا أميين وأن العلوم لا تكاد تذكر عندهم أما جيرانهم من فرس وروم فإنهم وإن كانت لهم بعض العلوم إلا أنها كانت خاصة بطبقة من الطبقات.
    وبفضل سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية اتسعت دائرة العلوم ، فأصبحت تضم العلم الأعلى ، أي المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلوم الوسائل أي التي يستطيع بفضلها الإنسان أن يكون خليفة في الأرض ، وأن يقوم بما يكلف بها على أحسن وجه ، وأن يبني الحضارة الإنسانية.
    واستطاع العلماء بفضل سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية أن يدخلوا في العلم المشروع كل فرع من فروع المعرفة ، فتفسير القرآن وتأويله وجمع الأحاديث ونقدها متناً وسنداً ، واستخراج ما بها من أحكام ، والمباحث الكلامية والفلسفية وعلم الحساب والهيئة والجغرافيا والتاريخ ، كلها علوم نشأت وانتشرت واستطاع أصحابها أن يتناولوا موضوعاتها ، وأن يختلفوا فيما توصلوا إليه دون أن يتهموا بالكفر أو الإلحاد أو الهرطقة ، بل إن هناك من درس علوماً تبدو في ظاهرها منافية للدين.
    وهكذا اتسع الإسلام لكل علم بشرط أن تتوفر بعض الشروط : منها أن يكون دليلاً للإيمان وللعمل.
    (2) انتشار الكتابة :
    إن اعتناء الرسول صلى الله عليه وسلم ظهر واضحاً جلياً منذ نزول الوحي عليه ، وأخذ شكلا عملياً في غزوة بدر الكبرى ، وقد نتج عنه تزايد عدد الكتاب ، فقد بلغ عدد كتاب الوحي في أواخر الرسالة خمسين كاتباً (90)
    فأبو بكر الصديق قد كتب الحديث وضمنه بعض الوسائل التي وجهها إلى من ولاهم أمراً من أمور المؤمنين ، فقد ذكرت بعض الأخبار أنه وجه كتاباً إلى أنس بن مالك جاء فيه : (بسم الله الرحمن الرحيم : هذه فريضة الصدقة التي فرض الرسول صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر الله بها ورسوله (الحديث) (92)
    وأبو هريرة أصبحت له صحف يعود إليها بعد أن كان غير كاتب ، ومؤكداً أن من كان أكثر منه حديثاً إنما تبرز عليه بفضل الكتابة ، فقد روى عنه أنه قال : (ما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب (93) لقد عمل أبو هريرة على أن يصبح كاتباً قارئاً فكان له ذلك ، فقد أخرج ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو بن أميه قال : تحدثت عند أبي هريرة بحديث فأنكره فقلت إني سمعته منك فقال : إن كنت سمعته مني فهو مكتوب عندي (94)
    لقد ضعف بعضهم سند الخبر الأخير ، ولكنا نميل إلى ترجيح صدوره عن أبي هريرة لأننا نعلم أن توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم تطلب من المسلم أن يتعلم القراءة والكتابة ، وأن أبا هريرة كان من أهل الصفة وهؤلاء كان لهم معلمون يعلمونهم القرآن والكتابة ، فقد روى عن عبادة بن الصامت أنه قال : علمت ناساً من أهل الصفة الكتابة والقرآن فأهدى إلى رجل منهم قوسا (الحديث) (95)
    وعبد الله بن عمرو بن العاص كان من الذين رخص لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث عنه ودونت عنه الصحيفة الصادقة ، وجاء في الأخبار أنه أملى الأحاديث على طلابه فقد ذكر الدكتور الأعظمي (98) أن أحاديثه كانت مكتوبة عند سبعة من التابعين هم : أبو سبره (99) وشعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو (100) ، وشفي بن ماتع (101) وعبد الرحمن (101) وعبد الرحمن بن سلمة الجمحي (102) وعبد الله بن رباح الأنصاري (103) وعامل لعبد الله بن عمرو (104)
    وإذا أضفنا إلى الصحابة الذين كتبوا القرآن وبعض الأحاديث أولئك الذين كتبوا العقود والرسائل تبين لنا أن آخر العهد النبوي شهد تطوراً مهما في عدد الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة ، وأن هؤلاء نشروا الكتابة في جيل التابعين ، فانتشرت في الأمصار ،واستعين بها في المحافظة على النصوص وحمايتها من التحريف والتغيير ، وبدأت شيئاً فشيئاً تأخذ مكانتها في المجتمع ،وتقنع المحترزين منها بضرورة استخدامها والاطمئنان إليها و العمل على تطويرها.
    وما أن أشرف القرن الأول على النهاية حتى أخذت معالم المكتبة الإسلامية تظهر ،وذلك بنسخ القرآن الكريم ، وصحف الحديث ،وبعض المدونات في السيرة النبوية وغيرها من الفنون.
    2- انتشار المؤسسات التعليمية :
    لقد وجدت في عصر البنوة ومؤسسات تعليمية منها : المسجد والصفة ودار القراء ، والكتاتيب ، ولما فتح المسلمون البلدان نقلوا إليها هذه المؤسسات وتكونت الجامعات ، وكثر عدد الطلبة وظهرت الرحلة في طلب العلم ،وأصبح للعالم الإسلامي مجموعة من المؤسسات التعليمية ،ومن الطرق المنهجية التي لم تتوفر لبعض الشعوب إلا منذ قرون لا تزيد عن الأربعة.
    3- أثر سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية في منهج العلوم :
    مر بنا أن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمي اعتمد الاستقراء العقلي والتجربة والأمانة العلمية ،وقد أثرت هذه الأسس في العلوم فأخرجتها من دائرة الشعوذة والأسطورة ومكنتها من أن ترتبط بالنظر والتأمل والتدبر والبحث في قضايا الإنسان وخصائص الكون ،وذلك باستخدام المناهج التحليلية والتجريبية والبحث عن العلل والمقاصد ،فعلماء الحديث وقد وجدوا أنفسهم أمام بعض المشاكل التي تبدو مستعصية الحل قد طبقوا جانباً من منهج سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية ، فنقدوا مدلول ما يضاف إليه عليه الصلاة والسلام بتسليط معايير الوحي والعقل والتجربة عليه ،فقالوا : إن علامات وضع الحديث الركاكة في لفظه أو الفساد في معناه ، ومناقضته لنص الكتاب أو السنة المتواترة مناقضة بينه أو مخالفته للحقائق التاريخية ،وغيرها من علامات نقد المتن.
    ولم يكتفوا بهذا الجزء من النقد لأنه قد يترك ثغرة يستغلها الوضاعون فأضافوا إلى ذلك نقد الشكل ،فوضعوا قواعد علمية يتعرفون بفضلها على حامل الحديث.
    وبذلك وضعوا معايير لنقد مضمون العلم وشكله ،وأسهموا في جعل العلماء يتبعون في علمهم أمرين مهمين ،هما الدقة في المعلومات والأمانة في بيان النتائج ،وفي نقل المعرفة ،ونحن نعلم اليوم أن نقد أي علم مرتبط بالأمرين معاً.
    والمتأمل في تاريخ العلوم الإسلامية بالدرجة الأولى يلاحظ إلى أي حد تأثرت بالمنهج النقدي الذي سلكه المحدثون ،وهو يخلصون الأحاديث النبوية من السلبيات، ويصنفونها ويبوبونها ،ويستنبطون ما بها من أحكام توجيهات.
    والخلاصة فإن سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم لها مضمون امتاز الشمول والإحاطة بكل ما يمكن الإنسان من أن يكون حقاً خليفة في الأرض ، وأن يعمل لدنياه على أنها مطية للآخرة.
    أما خصائصها فتبين للإنسان أن العلم حق مشاع ، وأن الطبقية في ضلال ،والقول بأن الأجناس تختلف في القدرة عليه بدعة سيئة لا تقوم على دليل.
    كما تبين أن العلم يبقى مفتوحاً ،وأنه لا وجود لعلوم احترقت وانتهى أمرها أو لعلوم تنقل من مكان إلى آخر ، أو يهبها هذا لذاك ، أو يتكرم بها عالم على جاهل لأسباب سياسية أو غيرها ، فلا بد من البذل والكسب ،ومن هنا يأتي دور الطرق والأساليب التعليمية التي بفضلها يتيسر للمتعلمين تحصيل العلم واستثماره ،والمشاركة في تطوره ،كما يأتي دور المؤسسات التعليمية الواجب قيامها والسهر عليها ،وتعهدها على المجتمع الإسلامي.
    والله اعلم
    ـــــــــــــــــ
    الهوامش :
    1- ناصر الدين الأسد ، مصادر الشعر الجاهلي ، 32
    2- م.س ص 33
    3- البقرة : 78
    4- الطبري ، جامع البيان ، 1/257
    5- ابن سعد ، الطبقات 2/91
    6- محمد حميد الله ، الوثائق السياسية ، ص 285 الوثيقة 181
    7- الطبري : جامع البيان ، 2/259
    8- خ – 3 العلم /22
    9- ابن حجر ، الفتح 1 /146
    10- انظر مسلم ، الإيمان /1
    11- ط1 كتاب وقوت الصلاة /1
    12- حم 4/257
    13- حم 1/408
    14- م 4/344
    15- م4 – الصلاة 16(404)
    16- خ3 – العلم /21 ح1
    17- خ3 – العلم (34ح2)
    18- خ 3 العلم 034
    19- د.19/2 (3645)
    20- خ 96/25 ح 1
    21- العلق : 1 ، 2 ، 3 ، 4 ، 5
    22- القلم : 1
    23- حم : 5/315
    24- النملة : قروح
    25- د – 22 طب / 18 (3887)
    26- الحجر : 9
    27- انظر ترجمتها في الإصابة في تمييز الصحابة 4 / 341 ترجمة 622
    28- انظر الحديث عند أحم د1 /335
    29- انظر الحديث عند مسلم 49 / التوبة / 3 (2750)
    30- خ – 54 شروط / 15
    31- ت 28 ، البر والصلة 49 وعلق عليه بقوله : هذا حديث غريب من هذا الوجه
    32- م 43 الفضائل / 140 (2363)
    33- موريس بوكاى ، دراسات الكتب المقدمة في ضوء المعارف الحديثة – ص 278 الترجمة العربية – دار المعارف ، مصر
    34- خ – 76 الطب / 1
    35- انظر فتح الباري 10/110
    36- ن – 28 الخيل/8
    37- الأحزاب 72
    38- التحرير والتنوير 22/129
    39- البقرة 31
    40- خ 3 علم 21 ح 1
    41- م. س ح2
    42- انظر فتح الباري 1 /158
    43- خ (3) علم 34
    44- خ الاعتصام /10
    45- م إيمان / 247
    46- ت = 34 كتاب الفتن 51 (2229) وقال هذا حديث صحيح سمعت محمد بن إسماعيل يقول : سمعت علي بن المديني يقول : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، هم أهل الحديث
    47- خ 3 علم / 36 جنائز /6 -91 – اعتصام
    48- ابن حجر : فتح الباري 1 /158
    49- م.س 13/94
    50- الحشر : 9
    51- خ علم /31
    52- حم 5/ 238 من حديث أبي مالك سهل بن سعد الساعدي.
    53- انظر سنن الترمذي 48 تفسير القرآن / 77 تفسير القرآن / 77 تفسير البروج ، قال الترمذي بعد أن أورد الحديث المروي عن مهيب رضي الله عنه وهذا حديث حسن غريب.
    54- خ – 3- علم /44ج 1
    55- فتح الباري 1/177
    56- خ3 علم /13
    57- ابن حجر : الفتح 1 /143
    58- خ3 علم /10 ، وهذا التعليق جزء من حديث طويل خرجه أبو داود في كتاب العلم (3641)
    59- الحافظ الهيثمي : مجمع الزوائد 1/128-129 وقال : رواه البزار في حديث طويل ورجاله موثقون.
    60- انظر الحديث في سنن الترمذي 48 تفسير القرآن /66 (3318)
    61- ترجع أصول الفلسفة المثالية إلى الهند القديمة وإلى أفلاطون ، ومن المنتسبين إليها نذكر بيركلي وفخته وهيوم وهيجل وكانت وشوبنهارو وتقوم هذه الفلسفة على أن الروح الإنسانية هي أهم عنصر في الحياة وإن الواقع روحي في طبيعته وليس فيزيائياً ، وأنه من صنع العقل وتؤكد المثالية على وجوب توفير الفرصة للطالب حتى يفكر ليطبق معايير الحكم الخلقي على المواقف.
    62- الواقعية : هي المدرسة الفلسفية التي جعلت همها دراسة الواقع والانطلاق منه ، والتأكيد على الوجود المادي ، والواقعية الكلاسيكي والاتجاه الواقعي الحي الذي يتزعمه بيكون ولوك وستيوارت ومن أهم أهداف التعليم عندهم تمكين الإنسان من السيطرة على البيئة الطبيعية.
    63- من أشهر فلاسفة البراحمتيه ويليم جميس وجون ديوي ، وتعتبر البراجمانية فلسفة عملية ومنفعية وتؤمن بالتغير المستمر وبنسبية القيم والأخلاق.
    64- جزء من حديث أخرجه البخاري في الكتب التالية – النكاح /45ح2 – الفرائض / 2-الأدب 57- 58
    65- الحجرات 12
    66- الزخرف 23
    67- ت 28 البر والصلة / 23 (2007 وقال حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
    68- ت 28 البر والصلة / 86 (2033) وقال حسن غريب.
    69- خ – 78 – الأدب (83)
    70- م 43 الفضائل / 139 (2361).
    71- م.س (2362)
    72- م.س (2363)
    73- الحجر 22 قال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور : ومعنى الألقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين فينشأ عن ذلك البخار وإنما تلقح الشجر ذي الثمرة ثم قال ومن بلاغة الآية إيراد هذا الوصف لإفادة كلا العملين اللذين تعملهما الرياح (التحرير والتنوير 14/38)
    74- م. 19 العليان / 18 (150)
    75- خ 2 / علم ح3
    76- خ 3 علم / 24 ح 1
    77- م.س ح 2
    78- م ، 45 البر والصلة والآداب / 105
    79- خ 23 الجنائز / 34
    80- خ – 95 تفسير القرآن الكريم ، سورة النساء / 19 – ح1
    81- انظر (م.س) ح2
    82- ابن حجر – فتح الباري 8/ 209
    83- التحرير والتنوير 5/170
    84- انظر الحديث في صحيح البخاري ، كتاب العلم /6ح2
    85- الهيثمي ، مجمع الزوائد 1/129قال رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله الصحيح
    86- خ 3 العلم /12
    87- خ – العلم /9
    88- ابن حجر فتح الباري 1/129 نقلا عن القرطبي
    89- انظر حديث الأعرابي الذي جاء مستنكر أن تلد امرأته ولداً أسود ، ص 35 من هذا البحث ، وقصة الفتى الذي أتى طالباً الأذن في الزنا ص 41 من هذا البحث
    90- خ – 3 العلم /4-145-50
    91- آل عمران 159
    92- عبدالحي الكتاب ، التراتيب الإدارية
    93- محمد مصطفى الأعظمي ، دراسات في الحديث النبوي ، 92 وما بعدها
    94- خ – 34 الزكاة / 38
    95- د- 3 الزكاة / 4 (1567)
    96- الخطيب البغدادي تقييد العلم 82 ابن عبد البر ، جامع بيان العلم وفضله 1 / 84
    97- ابن حجر ، فتح الباري 1 / 174 قال سند هذا ضعيف ، وعلى تقدير ثبوته فهو نادر
    98- حم 5/315
    99- الأعظمي ، دراسات في الحديث النبوي ، 142 – 125
    100- روى عن عمر بن الخطاب 12/105
    101- روى عن جده عبدالله بن عمرو بن العاص وابن عباس وابن عمر ومعاويه وعبادة بن الصامت ، 4/360
    102- الأعظمي دراسات في الحديث النبوي 125 نقلا عن فتح المغيث 216 وقال : لا ندري هل هو عبدالرحمن بن سلمة أم رجل آخر.
    103- (9) ، (10) انظر م . س ص 125
    المصدر : مجلة مركز بحوث السنة والسيرة (الدوحة):- مج 4, ع 4.-ص 89 - 138

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة مايو 17 2024, 06:45