[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
التكيـُّف الجغرافي والسكاني والتاريخي للأندلس
ميغـِل كـروث اِرْنـانـْدِث
ترجمة: فخري الوصيف
هذه هي ترجمة الفصل الأول من كتاب "الإسلام بالأندلس" (مدريد ، 1996 ، وظهرت طبعته الأولي أيضا في مدريد 1992) للمستعرب الاسباني Miguel Cruz Hernández ، وقد نشرت جريدة القدس العربي ترجمتنا لمقدمة الطبعة الأولى للكتاب المذكور بعنوان "تأملات في ماهية الأندلس" (16 تموز 2007) .
- الوضع الجغرافي للأندلس
غالبا ما يطلق الجغرافيون والمؤرخون العرب "الأندلس" على شبه جزيرة إيبريا ، وأصبح هذا المفهوم تقريبا عامًّا لدى الإنسان المثقف ؛ ولنتذكر تعبير ابن رشد عندما تحدث عن الوحدة الجغرافية للأندلس ، الإسلامية أو النصرانية على حد سواء . لكن هذا المفهوم ، كما هو معروف ، عبارة عن كلمة أو فكرة ذات أصل شرقي محتمل . بالفعل لم يكن المسلمون الأوائل لديهم فكرة واضحة عن حدود شبه جزيرة إيبريا ؛ فبريق وسرعة الفتح جعلتهم يتخطون عقبة الـﭘـُرْت (الـﭘرنيو Pirineo) ويتوغلون بعمق فيما هو معروف حاليا بفرنسا . وكان فشل فتح غالة القديمة لأسباب مجتمعة : جغرافية (المناخ المطير) ، وتاريخية (قوة التلاحم الاجتماعي لأمناء القصر الذين أنشأوا الأسرة الكارولونجية) ، وعسكريـة (مقاومة الكونت أودو Eudes من تولوز) ؛ لذلك ، ومنذ عام 122 هـ (= 740 م) تخلـّى الفاتحون عن الحافة الكانتبرية ، وبعد ذلك دعم عبد الرحمن بن معاوية هذا الوضع . وبعد فقدان برشلونة ومعها كل قطالونيا القديمة Catalunya vella ، بقيت أعالي البرت عصية على السيادة الإسلامية في الأماكن القليلة التي وصلت إليها ، وبشكل صوري أكثر منه فعلي . لذلك استقر الإسلام الأندلسي بوجه أساسي في أودية أنهار إبْـرُه Ebro ، وطوريا Turia ، وشـُقـْر Júcar ، وشقورة Segura ، والوادي الكبير Guadalquivir ، ووادي آنهْ Guadiana ، والتاجه Tajo ، والسواحل المتوسطية والأطلسية الجنوبية ، وتشكـَّل عموده الفقري داخليا من منظومة السلاسل الجبلية : الإيبرية ، والوسطى ، والهضبة الجنوبية .
بهذا التحديد ، يمكن القول إن الوضع النمطي لشبه الجزيرة الإيبرية كملتقى لتيارات حافـزة ، على ما أشار الأستاذ أ. كابو A. Cabo ، كان يوجد بالكامل في نطاق الإسلام الأندلسي ، بل يصل إلى حد المبالغة في قوله بهذا الشأن . وبـِنـْية شبه جزيرة إيبريا جدّ بديهية لدرجة أن يسمّي الفاتحون منطقة رأس الجسر "الجزيرة" ، وهو المصطلح الذي ظلّ باقياً في اسم موضع Algeciras . وموقع شبه الجزيرة يمثل باعثا لعزلة قوية ، معـززة في هذه الحالـة بالشكل المحكم ، تقريبا خماسيا ، للأراضي الإيبرية . من جهة أخرى ، الحاجز الشاسع ، حاجز الـﭘرتات (435 كم) يبدو عسير الجواز ؛ إذ تشكل جبال الـﭘرتات عقبة جبلية مهمة متكونة من عدة صفوف جبلية متوازية ، نسبيا حديثة التكوين جيولوجيا ، بارتفاعات شاهقة ومنحدرة خالية من تجاويف مستعرضة ، الفجاج صعبة وعسكريا خطرة ، والمناطق الساحلية المنخفضة ، شرق وغرب الحاجز ، قليلة وضيقة . من جهة أخرى ، شبه جزيرة إيبريا تكوِّن حدّ العالـم الغربي ؛ الذي فيه كان يلتقي آخر الأرض المعمورة من العالم القديم . وبتنازل الإسلام الأندلسي تقريبا منذ مولده عن الجرف الكانتبري ، تزعزعت سيادته في أعالي الـﭘرتات ، وفقد مبكرا الأراضين الكتلانية الواقعة إلى الشمال من خط يوبريجات-كادورنير Llobregat-Cadorner ، وتحول حاجز الـﭘرتات إلى ستار حديدي شمالي ، قصي وصارم .
تكمن خلفية بـُساط موقع شبه الجزيرة في وضعه كمِنصّة لتحفيز الاتصال ، وإلى ذلك ينبغي الإشارة إلى أربعة محاور : الاتصال الأوروﭘـي الإيبيري ، والاتصال البيني المتوسطي ، والجسر الشمالي الأفريقي ، والدائرة الأطلنطية المتوسطية . فـَقـَدَ الإسلام الأندلسي سريعا المحور الأول ، وانتهى الحال بـِضعف الرابع ، فأصبح الاثنان الآخران حاسمين . الجسر الشمالي الأفريقي ، وهو جوهري على طول تاريخ شبه جزيرة إيبريا ، ويشكل أحد تفسيرات وجود الإسلام في الأندلس : بين رأس طريف والساحل الشمالي الإفريقي يوجد 15 كم كـفاصل ، الحياة النباتية والحيوانية متشابهة ، والمناخ مشترك . أما الاتصال البيني المتوسطي ، فالدور الفريد للسواحل الإيبرية مشهود منذ أقدم العصور ، ويعزز هذا الدور الموقع الإستراتيجي للجزائر الشرقية (جزر البليار Baleares وPitiusas) ومضيق البحر في ساحل أندلوثيا . بالنسبة إلى الدائرة الأطلنطية المتوسطية ، التي كانت محلا لأسفار خرافية قديمة أحدثها الافتراض الهرقلى بأن ما ثمة مكان آخر هنالك (Non plus ultra ) ، فقد شجعت الهجرات ، وسهلت التجارة البحرية ، وفتحت أبواب أوروﭘا الشمالية الأطلسية . من هنا ، من المرجح ، ولد الأساس الفكري لاسم الأندلس الذي درسه الأستاذ بالبيه Vallvé . فلذلك كان الإسلام لديه فرصة تاريخية كبرى ، ولكنها مخفقة جزئيا بسبب العداوة بين الأمويين والعباسيين والفاطميين ، وبسبب الفقدان المبكر للحافة الكنتبرية والأراضين الواقعة شمال نهر دويره Duero . إذ يكفي ذكر الاستثمار المتوسطي من جانب مملكة أراجون والأطلسي من جهة الـﭘرتغال وقشتالة .
التكيـُّف الجغرافي والسكاني والتاريخي للأندلس
ميغـِل كـروث اِرْنـانـْدِث
ترجمة: فخري الوصيف
هذه هي ترجمة الفصل الأول من كتاب "الإسلام بالأندلس" (مدريد ، 1996 ، وظهرت طبعته الأولي أيضا في مدريد 1992) للمستعرب الاسباني Miguel Cruz Hernández ، وقد نشرت جريدة القدس العربي ترجمتنا لمقدمة الطبعة الأولى للكتاب المذكور بعنوان "تأملات في ماهية الأندلس" (16 تموز 2007) .
- الوضع الجغرافي للأندلس
غالبا ما يطلق الجغرافيون والمؤرخون العرب "الأندلس" على شبه جزيرة إيبريا ، وأصبح هذا المفهوم تقريبا عامًّا لدى الإنسان المثقف ؛ ولنتذكر تعبير ابن رشد عندما تحدث عن الوحدة الجغرافية للأندلس ، الإسلامية أو النصرانية على حد سواء . لكن هذا المفهوم ، كما هو معروف ، عبارة عن كلمة أو فكرة ذات أصل شرقي محتمل . بالفعل لم يكن المسلمون الأوائل لديهم فكرة واضحة عن حدود شبه جزيرة إيبريا ؛ فبريق وسرعة الفتح جعلتهم يتخطون عقبة الـﭘـُرْت (الـﭘرنيو Pirineo) ويتوغلون بعمق فيما هو معروف حاليا بفرنسا . وكان فشل فتح غالة القديمة لأسباب مجتمعة : جغرافية (المناخ المطير) ، وتاريخية (قوة التلاحم الاجتماعي لأمناء القصر الذين أنشأوا الأسرة الكارولونجية) ، وعسكريـة (مقاومة الكونت أودو Eudes من تولوز) ؛ لذلك ، ومنذ عام 122 هـ (= 740 م) تخلـّى الفاتحون عن الحافة الكانتبرية ، وبعد ذلك دعم عبد الرحمن بن معاوية هذا الوضع . وبعد فقدان برشلونة ومعها كل قطالونيا القديمة Catalunya vella ، بقيت أعالي البرت عصية على السيادة الإسلامية في الأماكن القليلة التي وصلت إليها ، وبشكل صوري أكثر منه فعلي . لذلك استقر الإسلام الأندلسي بوجه أساسي في أودية أنهار إبْـرُه Ebro ، وطوريا Turia ، وشـُقـْر Júcar ، وشقورة Segura ، والوادي الكبير Guadalquivir ، ووادي آنهْ Guadiana ، والتاجه Tajo ، والسواحل المتوسطية والأطلسية الجنوبية ، وتشكـَّل عموده الفقري داخليا من منظومة السلاسل الجبلية : الإيبرية ، والوسطى ، والهضبة الجنوبية .
بهذا التحديد ، يمكن القول إن الوضع النمطي لشبه الجزيرة الإيبرية كملتقى لتيارات حافـزة ، على ما أشار الأستاذ أ. كابو A. Cabo ، كان يوجد بالكامل في نطاق الإسلام الأندلسي ، بل يصل إلى حد المبالغة في قوله بهذا الشأن . وبـِنـْية شبه جزيرة إيبريا جدّ بديهية لدرجة أن يسمّي الفاتحون منطقة رأس الجسر "الجزيرة" ، وهو المصطلح الذي ظلّ باقياً في اسم موضع Algeciras . وموقع شبه الجزيرة يمثل باعثا لعزلة قوية ، معـززة في هذه الحالـة بالشكل المحكم ، تقريبا خماسيا ، للأراضي الإيبرية . من جهة أخرى ، الحاجز الشاسع ، حاجز الـﭘرتات (435 كم) يبدو عسير الجواز ؛ إذ تشكل جبال الـﭘرتات عقبة جبلية مهمة متكونة من عدة صفوف جبلية متوازية ، نسبيا حديثة التكوين جيولوجيا ، بارتفاعات شاهقة ومنحدرة خالية من تجاويف مستعرضة ، الفجاج صعبة وعسكريا خطرة ، والمناطق الساحلية المنخفضة ، شرق وغرب الحاجز ، قليلة وضيقة . من جهة أخرى ، شبه جزيرة إيبريا تكوِّن حدّ العالـم الغربي ؛ الذي فيه كان يلتقي آخر الأرض المعمورة من العالم القديم . وبتنازل الإسلام الأندلسي تقريبا منذ مولده عن الجرف الكانتبري ، تزعزعت سيادته في أعالي الـﭘرتات ، وفقد مبكرا الأراضين الكتلانية الواقعة إلى الشمال من خط يوبريجات-كادورنير Llobregat-Cadorner ، وتحول حاجز الـﭘرتات إلى ستار حديدي شمالي ، قصي وصارم .
تكمن خلفية بـُساط موقع شبه الجزيرة في وضعه كمِنصّة لتحفيز الاتصال ، وإلى ذلك ينبغي الإشارة إلى أربعة محاور : الاتصال الأوروﭘـي الإيبيري ، والاتصال البيني المتوسطي ، والجسر الشمالي الأفريقي ، والدائرة الأطلنطية المتوسطية . فـَقـَدَ الإسلام الأندلسي سريعا المحور الأول ، وانتهى الحال بـِضعف الرابع ، فأصبح الاثنان الآخران حاسمين . الجسر الشمالي الأفريقي ، وهو جوهري على طول تاريخ شبه جزيرة إيبريا ، ويشكل أحد تفسيرات وجود الإسلام في الأندلس : بين رأس طريف والساحل الشمالي الإفريقي يوجد 15 كم كـفاصل ، الحياة النباتية والحيوانية متشابهة ، والمناخ مشترك . أما الاتصال البيني المتوسطي ، فالدور الفريد للسواحل الإيبرية مشهود منذ أقدم العصور ، ويعزز هذا الدور الموقع الإستراتيجي للجزائر الشرقية (جزر البليار Baleares وPitiusas) ومضيق البحر في ساحل أندلوثيا . بالنسبة إلى الدائرة الأطلنطية المتوسطية ، التي كانت محلا لأسفار خرافية قديمة أحدثها الافتراض الهرقلى بأن ما ثمة مكان آخر هنالك (Non plus ultra ) ، فقد شجعت الهجرات ، وسهلت التجارة البحرية ، وفتحت أبواب أوروﭘا الشمالية الأطلسية . من هنا ، من المرجح ، ولد الأساس الفكري لاسم الأندلس الذي درسه الأستاذ بالبيه Vallvé . فلذلك كان الإسلام لديه فرصة تاريخية كبرى ، ولكنها مخفقة جزئيا بسبب العداوة بين الأمويين والعباسيين والفاطميين ، وبسبب الفقدان المبكر للحافة الكنتبرية والأراضين الواقعة شمال نهر دويره Duero . إذ يكفي ذكر الاستثمار المتوسطي من جانب مملكة أراجون والأطلسي من جهة الـﭘرتغال وقشتالة .