[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
آثار الحرب على الجغرافيا السياسية في العالم
كان من أهم ما يميز النهضة الأوروبية هو ظهور حركة الكشوف الجغرافية التي بدأت منذ بداية الخامس عشر ، واستمرت خلال ذلك القرن ، ولم تظهر نتائجها الحاسمة إلا في نهايته وبداية القرن الذي يليه . وكان من نتيجة الكشوف الجغرافية استكمال رسم خريطة كاملة لكل العالم بعد كشف قارتي أمريكا واستراليا واكتشاف القطبين الشمالي والجنوبي . ذلك أن العالم الذي كان معروفاً قبل الكشوف الجغرافية كان مكوّناً من أوروبا وآسيا وأفريقيا . وبعد الكشوف الجغرافية للقارات والمناطق التي كانت مجهولة أصبح العالم كله معروفاً ، وأصبح هناك نظرة كلّية للكرة الأرضية سواء من يابس وماء . وترافقت حركة الكشوف مع ظهور الروح القومية واشتدادها بين الأمم الأوروبية ، حيث سعت كل دولة للسيطرة على العالم الجديد . وما لبثت الحرب أن اندلعت في أنحاء أوروبا وانتهت إلى قيام الإمبراطوريات الاستعمارية . وكان أعظم تلك الدول وأنشطها في الميدان الاستعماري هي (إسبانيا والبرتغال وفرنسا وبريطانيا وهولندا) . وهي دول كانت تحرّكها النزعة القومية ، وكان لكل منها ظروف خاصة مهّدت لتحقيق وحدتها القومية في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر . وظهر مفهوم الجغرافيا السياسية مترافقاً مع تنامي الشعور القومي ، ذلك أن كل دولة من تلك الدول الأوروبية قد اشتدت رغبتها في التوسع لنشر نفوذها ومبادئها خارج حدودها السياسية بأساليب رسمية وغير رسمية تحقيقاً لمصالحها الأمنية والاقتصادية والسياسية والإيديولوجية ، وذلك على حساب غيرها من الدول والشعوب الأخرى . وحدثت نقلة نوعية في مفهوم الجغرافيا السياسية بعد توقيع صلح وستفاليا عام 1648 ، ذلك أن هذا الصلح الذي عقد بين فرنسا والإمبراطورية الرومانية المقدسة التي كانت تحكم آنذاك إسبانيا والنمسا ، قد أنهى الحروب الدينية في أوروبا إذ وضع حدّاّ لحرب الثلاثين عاماً في ألمانيا ، وأصبح المذهب البروتستانتي عقيدة معترفاً بها إلى جانب الكاثوليكية . وأعلن الصلح رسمياً استقلال هولندا وسويسرا بعد أن كانتا مستقلتين من حيث الواقع ، وتوضّحت الحدود بين الدول الأوروبية وأصبحت هذه الحدود مقدسة لا يجوز المسّ بها ، وتحقق التوازن السياسي والديني في أوروبا ، واستمر ذلك لعدّة أجيال . وإذا كان السلم قد حافظ على الكيانات السياسات المستقلة ، فإن الحروب كانت في الغالب تغيّر الخرائط القائمة وترسم خرائط أخرى ، وكانت الحرب بين بروسيا وفرنسا عام 1870 أول حرب كانت تهدف إلى تغيير الخرائط السياسية القائمة . فقد انتهت هذه الحرب بهزيمة فرنسا عام 1871 ، وأيضاً بظهور دولة ألمانية واحدة على أنقاض عشرات الدول الألمانية . وأصبحت ألمانيا كياناً سياسياً واحداً وشرعت تمارس دورها السياسي في أوروبا والعالم . ومن ثم جاءت الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، لتقوم هي الأخرى بعملية تغيير واسعة للكيانات السياسية التي كانت قائمة قبل اندلاع تلك الحرب ، فقد عمد المنتصرون في هذه الحرب وهم (بريطانيا ، وفرنسا ، والولايات المتحدة) ، إلى تقسيم الدول المهزومة ولاسيما الدول الإمبراطورية منها . فتم تقسيم الإمبراطورية النمساوية ، وتم خلق دول كثيرة في شرق أوروبا لم تكن موجودة من قبل . فظهرت يوغسلافيا السابقة ورومانيا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ، كما تم إجبار روسيا على الاعتراف باستقلال فنلندا ، كما تم تقسيم الإمبراطورية العثمانية ، وتم إجبارها على الاعتراف باستقلال البلاد العربية . وهكذا ظهرت دول عربية عديدة في بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية وفي شمال أفريقيا . وكانت الحرب العالمية الثانية وسيلة أخرى لتغيير الخريطة السياسية في العالم ، فقد تمت تصفية الاستعمار القديم (البريطاني والفرنسي والياباني) وظهرت دول جديدة في آسيا وأفريقيا ، وظهرت منظمة الأمم المتحدة ، وبدأت الدول المستقلة بالدخول إليها ، وظهرت قوانين الشرعية الدولية التي تنصّ على احترام سيادة واستقلال الدول في العالم . وعاش العالم فترة استقرار في الجغرافيا السياسية وهذه الفترة كانت مترافقة مع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 ، اختلّ توازن العالم ، واختلّت بالتالي خريطته السياسية . فقد ظهرت الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة ، وبدأت تسعى إلى فرض نموذجها في الرأسمالية والديمقراطية على العالم أجمع ، وسقط مفهوم استقلال الدول وسيادتها تحت وطأة تيار العولمة القائم على مبدأ حرية التجارة وتسهيل انسياب رؤوس الأموال والسلع عبر العالم . وأعلنت الولايات المتحدة مبدأ (الضربات الاستباقية) التي قد توجّه ضد كل دولة تعارض سياسة الهيمنة الإمبريالية الأمريكية . وهكذا تم توجيه ضربة أولى ضد العراق عام 2003 ، وهناك دول أخرى موضوعة على لائحة الأهداف المستقبلية حتى تتم تصفية العالم من أعداء الولايات المتحدة . وبالتالي تحويل العالم كله إلى فضاء واسع تسيطر عليه نسخة واحدة من الليبرالية السياسية والاقتصادية بزعامة الولايات المتحدة . وفي عالم كهذا لن يكون هناك وجود لمفهوم سيادة الدول واستقلالها ، لأن السيادة ستكون للشركات العابرة للقارات . وهكذا ستنتهي الجغرافيا السياسية لتولّد جغرافيا أخرى قائمة على أساس الاقتصاد ومصالح الشركات .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتب من الإمارات .آثار الحرب على الجغرافيا السياسية في العالم
بقلم : محمد خليفة (*)
كان من أهم ما يميز النهضة الأوروبية هو ظهور حركة الكشوف الجغرافية التي بدأت منذ بداية الخامس عشر ، واستمرت خلال ذلك القرن ، ولم تظهر نتائجها الحاسمة إلا في نهايته وبداية القرن الذي يليه . وكان من نتيجة الكشوف الجغرافية استكمال رسم خريطة كاملة لكل العالم بعد كشف قارتي أمريكا واستراليا واكتشاف القطبين الشمالي والجنوبي . ذلك أن العالم الذي كان معروفاً قبل الكشوف الجغرافية كان مكوّناً من أوروبا وآسيا وأفريقيا . وبعد الكشوف الجغرافية للقارات والمناطق التي كانت مجهولة أصبح العالم كله معروفاً ، وأصبح هناك نظرة كلّية للكرة الأرضية سواء من يابس وماء . وترافقت حركة الكشوف مع ظهور الروح القومية واشتدادها بين الأمم الأوروبية ، حيث سعت كل دولة للسيطرة على العالم الجديد . وما لبثت الحرب أن اندلعت في أنحاء أوروبا وانتهت إلى قيام الإمبراطوريات الاستعمارية . وكان أعظم تلك الدول وأنشطها في الميدان الاستعماري هي (إسبانيا والبرتغال وفرنسا وبريطانيا وهولندا) . وهي دول كانت تحرّكها النزعة القومية ، وكان لكل منها ظروف خاصة مهّدت لتحقيق وحدتها القومية في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر . وظهر مفهوم الجغرافيا السياسية مترافقاً مع تنامي الشعور القومي ، ذلك أن كل دولة من تلك الدول الأوروبية قد اشتدت رغبتها في التوسع لنشر نفوذها ومبادئها خارج حدودها السياسية بأساليب رسمية وغير رسمية تحقيقاً لمصالحها الأمنية والاقتصادية والسياسية والإيديولوجية ، وذلك على حساب غيرها من الدول والشعوب الأخرى . وحدثت نقلة نوعية في مفهوم الجغرافيا السياسية بعد توقيع صلح وستفاليا عام 1648 ، ذلك أن هذا الصلح الذي عقد بين فرنسا والإمبراطورية الرومانية المقدسة التي كانت تحكم آنذاك إسبانيا والنمسا ، قد أنهى الحروب الدينية في أوروبا إذ وضع حدّاّ لحرب الثلاثين عاماً في ألمانيا ، وأصبح المذهب البروتستانتي عقيدة معترفاً بها إلى جانب الكاثوليكية . وأعلن الصلح رسمياً استقلال هولندا وسويسرا بعد أن كانتا مستقلتين من حيث الواقع ، وتوضّحت الحدود بين الدول الأوروبية وأصبحت هذه الحدود مقدسة لا يجوز المسّ بها ، وتحقق التوازن السياسي والديني في أوروبا ، واستمر ذلك لعدّة أجيال . وإذا كان السلم قد حافظ على الكيانات السياسات المستقلة ، فإن الحروب كانت في الغالب تغيّر الخرائط القائمة وترسم خرائط أخرى ، وكانت الحرب بين بروسيا وفرنسا عام 1870 أول حرب كانت تهدف إلى تغيير الخرائط السياسية القائمة . فقد انتهت هذه الحرب بهزيمة فرنسا عام 1871 ، وأيضاً بظهور دولة ألمانية واحدة على أنقاض عشرات الدول الألمانية . وأصبحت ألمانيا كياناً سياسياً واحداً وشرعت تمارس دورها السياسي في أوروبا والعالم . ومن ثم جاءت الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، لتقوم هي الأخرى بعملية تغيير واسعة للكيانات السياسية التي كانت قائمة قبل اندلاع تلك الحرب ، فقد عمد المنتصرون في هذه الحرب وهم (بريطانيا ، وفرنسا ، والولايات المتحدة) ، إلى تقسيم الدول المهزومة ولاسيما الدول الإمبراطورية منها . فتم تقسيم الإمبراطورية النمساوية ، وتم خلق دول كثيرة في شرق أوروبا لم تكن موجودة من قبل . فظهرت يوغسلافيا السابقة ورومانيا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ، كما تم إجبار روسيا على الاعتراف باستقلال فنلندا ، كما تم تقسيم الإمبراطورية العثمانية ، وتم إجبارها على الاعتراف باستقلال البلاد العربية . وهكذا ظهرت دول عربية عديدة في بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية وفي شمال أفريقيا . وكانت الحرب العالمية الثانية وسيلة أخرى لتغيير الخريطة السياسية في العالم ، فقد تمت تصفية الاستعمار القديم (البريطاني والفرنسي والياباني) وظهرت دول جديدة في آسيا وأفريقيا ، وظهرت منظمة الأمم المتحدة ، وبدأت الدول المستقلة بالدخول إليها ، وظهرت قوانين الشرعية الدولية التي تنصّ على احترام سيادة واستقلال الدول في العالم . وعاش العالم فترة استقرار في الجغرافيا السياسية وهذه الفترة كانت مترافقة مع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 ، اختلّ توازن العالم ، واختلّت بالتالي خريطته السياسية . فقد ظهرت الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة ، وبدأت تسعى إلى فرض نموذجها في الرأسمالية والديمقراطية على العالم أجمع ، وسقط مفهوم استقلال الدول وسيادتها تحت وطأة تيار العولمة القائم على مبدأ حرية التجارة وتسهيل انسياب رؤوس الأموال والسلع عبر العالم . وأعلنت الولايات المتحدة مبدأ (الضربات الاستباقية) التي قد توجّه ضد كل دولة تعارض سياسة الهيمنة الإمبريالية الأمريكية . وهكذا تم توجيه ضربة أولى ضد العراق عام 2003 ، وهناك دول أخرى موضوعة على لائحة الأهداف المستقبلية حتى تتم تصفية العالم من أعداء الولايات المتحدة . وبالتالي تحويل العالم كله إلى فضاء واسع تسيطر عليه نسخة واحدة من الليبرالية السياسية والاقتصادية بزعامة الولايات المتحدة . وفي عالم كهذا لن يكون هناك وجود لمفهوم سيادة الدول واستقلالها ، لأن السيادة ستكون للشركات العابرة للقارات . وهكذا ستنتهي الجغرافيا السياسية لتولّد جغرافيا أخرى قائمة على أساس الاقتصاد ومصالح الشركات .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ