منتديات مواد الاجتماعيات



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات مواد الاجتماعيات

منتديات مواد الاجتماعيات

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتديات مواد الاجتماعيات


    رجال حول الرسول , اعلام الصحابة

    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة : رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 710
    عارضة الطاقة :
    رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

    متميز عمير بن سعد - نسيج وحده

    مُساهمة من طرف Admin السبت ديسمبر 24 2011, 00:25


    عمير بن سعد - نسيج وحده


    أتذكرون سعيد بن عامر..؟؟

    ذلك الزاهد العابد الأوّاب الذي حمله أمير المؤمنين عمر على قبول امارة الشام وولايتها..

    لقد تحدثنا عنه في كتابنا هذا، ورأينا من زهده وترفعه، ومن ورعه العجب كله..

    وها نحن أولاء، نلتقي على هذه الصفات بأخ له، بل توأم، في الورع وفي الزهد، وفي الترفع.. وفي عظمة النفس التي تجل عن النظير..!!
    انه عمير بن سعد..

    كان المسلمون يلقبونه نسيج وحده!!

    وناهيك برجل يجمع على تلقيبه بهذا اللقب أصحاب رسول الله، وبما معهم من فضل وفهم ونور..!!

    **


    أبوه سعد القارئ رضي الله عنه.. شهد بدرا مع رسول الله والمشاهد بعدها.. وظلّ أمينا على العهد حتى لقي الله شهيدا في موقعة القادسية.

    ولقد اصطحب ابنه الى الرسول، فبايع النبي وأسلم..

    ومنذ أسلم عمير وهو عابد مقيم في محراب الله.

    يهرب من الأضواء، ويفيئ الى سكينة الظلال.

    هيهات أن تعثر عليه في الصفوف الأولى، الا أن تكون صلاة، فهو يرابط في صفها الأول ليأخذ ثواب السابقين.. والا أن يكون جهاد، فهو يهرول الى الصفوف الأولى، راجيا أن يكون من المستشهدين..!

    وفيما عدا هذا، فهو هناك عاكف على نفسه ينمي برّها، وخيرها وصلاحها وتقاها..!!

    متبتل، ينشد أوبه..!!

    أوّاب، يبكي ذنبه..!!

    مسافر الى الله في كل ظعن، وفي كل مقام...

    **


    ولقد جعل الله له في قلوب الأصحاب ودّا، فكان قرّة أعينهم ومهوى أفئدتهم..

    ذلم أن قوة ايمانه، وصفاء نفسه، وهدوء سمته، وعبير خصاله، واشراق طلعته، كان يجعله فرحة وبهجة لكل من يجالسه، أ، يراه.

    ولم يكن يؤثر على دينه أحدا، ولا شيئا.

    سمع يوما جلاس بن سويد بن الصامت، وكان قريبا له.. سمعه يوما وهو في دارهم يقول:" لئن كان الرجل صادقا، لنحن شرّ من الحمر"..!!

    وكان يعني بالرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وكان جلاس من الذين دخلوا الاسلام رهبا.

    سمع عمير بن سعد هذه العبارات ففجرت في نفسه الوديعة الهادئة الغيظ والحيرة..

    الغيظ، لأن واحدا يزعم أنه من المسلمين يتناول الرسول بهذه اللهجة الرديئة..

    والحيرة، لأن خواطره دارت سريعا على مسؤوليته تجاه هذا الذي سمع وأنكر..

    ينقل ما سمع الى رسول الله؟؟

    كيف، والمجالس بالأمانة..؟؟

    أيسكت ويطوي صدره ما سمع؟

    كيف؟؟

    وأين ولاؤه ووفاؤه للرسول الذي هداهم الله به من ضلالة، وأخرجهم من ظلمة..؟

    لكن حيرته لم تطل، فصدق النفس يجددائما لصاحبه مخرجا..

    وعلى الفور تصرّف عمير كرجل قوي، وكمؤمن تقي..

    فوجه حديثه الى جلاس بن سويد..

    " والله يا جلا، انك لمن أحب الناس الي، وأحسنهم عندي يدا، وأعزهم عليّ أن يصيبه شيء يكرهه..

    ولقد قلت الآن مقالة لو أذعتها عنك لآذتك.. وان صمتّ عليها، ليهلكن ديني، وان حق الدين لأولى بالوفاء، واني مبلغ رسول الله ما قلت"..!

    وأرضى عمير ضميره الورع تماما..

    فهو أولا أدّى أمانة المجلس حقها، وارتفع بنفسه الكبيرة عن ان يقوم بدور المتسمّع الواشي..

    وهو ثانيا أدى لدينه حقه، فكشف عن نفاق مريب..

    وهو ثالثا أعطى جلاس فرصة للرجوع عن خطئه واستغفار الله منه حين صارحه بأنه سيبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو أنه فعل آنئذ، لاستراح ضمير عمير ولم تعد به حاجة لابلاغ الرسول عليه السلام..

    بيد أن جلاسا أخذته العزة بالاثم، ولم تتحرك شفتاه بكلمة أسف أو اعتذار، وغادرهم عمير وهو يقول:

    " لأبلغنّ رسول الله قبل أن ينزل وحي يشركني في اثمك"...

    وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب جلاس فأنكر أنه قال، بل حلف بالله كاذبا..!!

    لكن آية القرآن جاءت تفصل بين الحق والباطل:

    ( يحلفون بالله ما قالوا.. ولقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد اسلامهم، وهمّوا بما لم ينالوا.. وما نقموا الا أن أغناهم الله ورسوله من فضله.. فان يتوبوا خيرا لهم، وان يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة،وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير)..


    واضطر جلاس أن يعترف بمقاله، وأن يعتذر عن خطيئته، لا سيما حين رأى الآية الكريمة التي تقرر ادانته، تعده في نفس اللحظة برحمة اله ان تاب هو وأقلع:

    " فان يتوبوا، يك خيرا لهم"..

    وكان تصرّف عمير هذا خيرا وبركة على جلاس فقد تاب وحسن اسلامه..

    وأخذ النبي بأذن عمير وقال له وهو يغمره بسناه:

    " يا غلام..

    وفت اذنك..

    وصدّقك ربك"..!!

    **


    لقد سعدت بلقاء عمير لأول مرة، وأنا أكتب كتابي بين يدي عمر.

    وبهرني، كما لم يبهرني شيء، نبأه مع أمير المؤمنين.. هذا النبأ الذي سأرويه الآن لكم، لتشهدوا من خلاله العظمة في أبهى مشارقها..

    **


    تعلمون أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان يختار ولاته وكأنه يختار قدره..!!

    كان يختارهم من الزاهدين الورعين، والأمناء الصادقين.. الذين يهربون من الامارة والولاية، ولا يقبلونها الا حين يكرههم عليها أمير المؤمنين..

    وكان برغم بصيرته النافذة وخبرته المحيطة يستأني طويلا، ويدقق كثيرا في اختيار ولاته ومعاونيه..

    وكان لا يفتأ يردد عبارته المأثورة:

    " أريد رجلا اذا كان في القوم، وليس أميرا عليهم بدا وكأنه أميرهم.. واذا كان فيهم وهو عليهم امير، بدا وكأنه واحد منهم..!!

    أريد واليا، لا يميز نفسه على الناس في ملبس، ولا في مطعم، ولا في مسكن..

    يقيم فيهم الصلاة.. ويقسم بينهم بالحق.. ويحكم فيهم بالعدل.. ولا يغلق بابه دون حوائجهم"..

    وفي ضوء هذه المعايير الصارمة، اختار ذات يوم عمير بن سعد واليا على حمص..

    وحاول عمير أن يخلص منها وينجو، ولكن أمير المؤمنين ألزمه بها الزاما، وفرضها عليه فرضا..

    واستخار الله ،ومضى الى واجبخ وهمله..

    وفي حمص مضى عليه عام كامل، لم يصل الى المدينة منه خراج..

    بل ولم يبلغ أمير المؤمنين رضي الله عنه منه كتاب..

    ونادى أمير المؤمنين كاتبه وقال له:

    " اكتب الى عمير ليأتي الينا"..

    وهنا أستأذنكم في أن أنقل صورة اللقاء بين عمر وعمير، كما هي في كتابي بين يدي عمر.

    " ذات يوم شهدت شوارع المدينة رجلا أشعث أغبر، تغشاه وعثاء السفر، يكاذ يقتلع خطاه من الأرض اقتلاعا، من طول ما لاقى من عناء، وما بذل من جهد..

    على كتفه اليمنى جراب وقصعة..

    وعلى كتفه اليسرى قربة صغيرة فيها ماء..!

    وانه ليتوكأ على عصا، لا يؤدها حمله الضامر الوهنان..!!

    ودلف الى مجلس عمر فى خطى وئيدة..

    السلام عليك يا امير المؤمنين..

    ويرد عمر السلام، ثم يسأله، وقد آلمه ما رآه عليه من جهد واعياء:

    ما شأنك يا عمير..؟؟

    شأني ما ترى.. ألست تراني صحيح البدن، طاهر الدم، معي الدنيا أجرّها بقرنيها..؟؟!!

    قال عمر: وما معك..؟

    قال عمير: معي جرابي أحمل فيه زادي..

    وقصعتي آكل فيها.. واداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي.. وعصاي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدوّا ان عرض.. فوالله ما الدنيا الا تبع لمتاعي..!!

    قال عمر: أجئت ماشيا..

    عمير: نعم..

    عمر: أولم تجد من يعطيك دابة تركبها..؟

    عمير: انهم لم يفعلوا.. واني لم أسألهم..

    عمر: فماذا عملت فيما عهدنا اليك به...؟

    عمير: أتيت البلد الذي يعثتني اليه، فجمعت صلحاء أهله، ووليتهم جباية فيئهم وأموالهم، حتى اذا جمعوها وضعوها في مواضعها.. ولو بقي لك منها شيء لأتيتك به..!!

    عمر: فما جئتنا بشيء..؟

    عمير: لا..

    فصاح عمر وهو منبهر سعيد:

    جدّدوا لعمير عهدا..

    وأجابه عمير في استغناء عظيم:

    تلك أيام قد خلت.. لا عملت لك، ولا لأحد بعدك"..!!

    هذه لصورة ليست سيناريو نرسمه، وليست حوارا نبتدعه.. انما هي واقعة تاريخية، شهدتها ذات يوم أرض المدينة عاصمة الاسلام في أيام خلده وعظمته.

    فأي طراز من الرجال كان أولئك الأفذاذ الشاهقون..؟!!

    **


    وكان عمر رضي الله عنه يتمنى ويقول:

    " وددت لو أن لي رجالا مثل عمير أستعين بهم على أعمال المسلمين"..

    ذلك أن عميرا الذي وصفه أصحابه بحق بأنه نسيج وحده كان قد تفوّق على كل ضعف انساني يسببه وجودنا المادي، وحياتنا الشائكة..

    ويوم كتب على هذا القدّيس العظيم أن يجتاز تجربة الولاية والحكم، لم يزدد ورعه بها اا مضاء ونماء وتألقا..

    ولقد رسم وهو أمير على حمص واجبات الحاكم المسلم في كلمات طالما كان يصدح بها في حشود المسلمين من فوق المنبر.

    وها هي ذي:

    " ألا ان الاسلام حائط منيع، وباب وثيق

    فحائط الاسلام العدل.. وبابه الحق..

    فاذا نقض الحائط، وحطّم الباب، استفتح الاسلام.

    ولا يزال الاسلام منيعا ما اشتدّ السلطان

    وليست شدّة السلطان قتلا بالسيف، ولا ضربا بالسوط..

    ولكن قضاء بالحق، وأخذا بالعدل"..!!


    والآن نحن نودّع عميرا.. ونجييه في اجلال وخشوع، تعالوا نحن رؤوسنا وجباهنا:

    لخير المعلمين: محمد..

    لامام المتقين: محمد..

    لرحمة الله المهداة الى الناس في قيظ الحياة

    عليه من الله صلاته. وسلامه..

    وتحياته وبركاته..

    وسلام على آله الآطهار..

    وسلام على أصحابه الأبرار...
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة : رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 710
    عارضة الطاقة :
    رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

    متميز أبو أيوب الأنصاري - انفروا خفافا و ثقالا

    مُساهمة من طرف Admin السبت ديسمبر 24 2011, 00:26


    أبو أيوب الأنصاري - انفروا خفافا و ثقالا


    كان الرسول عليه السلام يدخل المدينة مختتما بمدخله هذا رحلة هجرته الظافرة، ومستهلا أيامه المباركة في دار الهجرة التي ادّخر لها القدر ما لم يدخره لمثلها في دنيا الناس..

    وسار الرسول وسط الجموع التي اضطرمت صفوفها وأفئدتها حماسة، ومحبة وشوقا... ممتطيا ظهر ناقته التي تزاحم الناس حول زمامها كل يريد أن يستضيف رسول الله..
    وبلغ الموكب دور بني سالم بن عوف، فاعترضوا طريق الناقة قائلين:

    " يا رسول الله، أقم عندنا، فلدينا العدد والعدة والمنعة"..

    ويجيبهم الرسول وقد قبضوا بأيديهم على زمام الناقة:

    " خلوا سبيلها فانها مأمورة".

    ويبلغ الموكب دور بني بياضة، فحيّ بني ساعدة، فحي بني الحارث بن الخزرج، فحي عدي بن النجار.. وكل بني قبيل من هؤلاء يعترض سبيل الناقة، وملحين أن يسعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بالنزول في دورهم.. والنبي يجيبهم وعلى شفتيه ابتسامة شاكرة:

    " خلوا سبيلها فانها مأمورة..


    لقد ترك النبي للمقادير اختيار مكان نزوله حيث سيكون لها المنزل خطره وجلاله.. ففوق أرضه سينهض المسجد الذي تنطلق منه الى الدنيا بأسرها كلمات الله ونوره.. والى جواره ستقوم حجرة أو حدرات من طين وطوب.. ليس بها من متاع الدنيا سوى كفاف، أو أطياف كفاف!! سيسكنها معلم، ورسول جاء لينفخ الحياة في روحها الهامد. وليمنح كل شرفها وسلامها للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. للذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم.. وللذين أخلصوا دينهم للله.. للذين يصلحون في الأرض ولا يفسجون.

    أجل كان الرسول عليه الصلاة والسلام ممعنا في ترك هذا الاختيار للقدر الذي يقود خطاه..

    من اجل هذا، ترك هو أيضا زمام ناقته وأرسله، فلا هو يثني به عنقها ولا يستوقف خطاها.. وتوجه الى الله بقلبه، وابتهل اليه بلسانه:

    " اللهم خر لي، واختر لي"..

    وأمام دار بني مالك بن النجار بركت الناقة.. ثم نهضت وطوّفت بالمكان، ثم عادت الى مبركها الأول، وألأقت جرانها. واستقرت في مكانها ونزل الرسول للدخول.. وتبعه رسول الله يخف به اليمن والبركة..

    أتدرون من كان هذا السعيدالموعود الذي بركت الناقة أمام داره، وصار الرسول ضيفه، ووقف أهل المدينة جميعا يغبطونه على حظوظه الوافية..؟؟

    انه بطل حديثنا هذا.. أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد، حفيد مالك بن النجار..

    لم يكن هذا أول لقاء لأبي أيوب مع رسول الله..

    فمن قبل، وحين خرج وفد المدينة لمبايعة الرسول في مكة تلك البيعة المباركة المعروفة بـ بيعة العقبة الثانية.. كان أبو أيوب الأنصاري بين السبعين مؤمنا الذين شدّوا أيمانهم على يمين الرسول مبايعين، مناصرين.


    والآن رسول الله يشرف المدينة، ويتخذها عاصكة لدين الله، فان الحظوظ الوافية لأبي أيوب جعلت من داره أول دار يسكنها المهاجر العظيم، والرسول الكريم.

    ولقد آثر الرسول أن ينزل في دورها الأول.. ولكن ما كاد أبو أيوب يصعد الى غرفته في الدور العلوي حتى أخذته الرجفة، ولم يستطع أن يتصوّر نفسه قائما أو نائما، وفي مكان أعلى من المكان الذي يقوم فيه رسول الله وينام..!!

    وراح يلح على النبي ويرجوه ان ينتقل الى طابق الدور الأعلى فاستجاب النبي لرجائه..

    ولسوف يمكث النبي بها حتى يتمّ المسجد، وبناء حجرة له بجواره..

    ومنذ بدأت قريش تتنمّر للاسلام وتشن اغاراتها على دار الهجرة بالمدينة، وتؤلب القبائل، وتجيش الجيوش لتطفئ نور الله..

    منذ تلك البداية، واحترف أبو أيوب صناعة الجهاد في سبيل الله.

    ففي بدر، وأحد والخندق، وفي كل المشاهد والمغازي، كان البطل هناك بائعا نفسه وماله لله ربو العالمين..

    وبعد وفاة الرسول، لم يتخلف عن معركة كتب على المسلمين أن يخوضوها، مهما يكن بعد الشقة، وفداحة المشقة..!

    وكان شعاره الذي يردده دائما، في ليله ونهاره.. في جهره واسراره.. قول الله تعالى:

    ( انفروا خفافا وثقالا)..

    مرة واحدة.. تخلف عن جيش جعل الخليفة أميره واحدا من شباب المسلمين، ولم يقتنع أبو أ]وب بامارته.

    مرة واحدة لا غير.. مع هذا فان الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه، ويقول:

    " ما عليّ من استعمل عليّ"..؟؟

    ثم لم يفته بعد ذلك قتال!!


    كان حسبه أن يعيش جنديا في جيش الاسلام، يقاتل تحت رايته، ويذود عن حرمته..

    ولما وقع الخلاف بين علي ومعاوية، وقف مع علي في غير تردد، لأنه الامام الذي أعطي بيعة المسلمين.. ولما استشهد وانتهت الخلافة خعاوية وقف أبو أيوب بنفسه الزاهدة، الصامدة التقية لا يرجو من الدنيا سوى أن يضل له مكان فوق أرض الوغى، وبين صفوف المجاهدين..

    وهكذا، لم يكد يبصر جيش الاسلام يتحرك صوب القسطنطينية حتى ركب فرسه، وحمل سيفه، وراح يبحث عن استشهاد عظيم طالما حنّ اليه واشتاق..!!


    وفي هذه المعركة أصيب.

    وذهب قائد جيشه ليعوده، وكانت أنفاسه تسابق أشواقه الى لقاء الله..

    فسأله القائد، وكان يزيد بن معاوية:

    " ما حاجتك أبا أيوب"؟

    ترى، هل فينا من يستطيع أن يتصوّر أو يتخيّل ماذا كانت حاجة أبا أيوب..؟

    كلا.. فقد كانت حاجته وهو يجود بروحه شيئا يعجز ويعيي كل تصوّر، وكل تخيّل لبني الانسان..!!

    لقد طلب من يزيد، اذا هو مات أن يحمل جثمانه فوق فرسه، ويمضي به الى أبعد مسافة ممكنة في أرض العدو، وهنالك يدفنه، ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق، حتى يسمع وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره، فيدرك آنئذ ـنهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز..!!

    أتحسبون هذا شعرا..؟

    لا.. ولا هو بخيال، بل واقع، وحق شهدته الدنيا ذات يوم، ووقفت تحدق بعينيها، وبأذنيها، لا تكاد تصدق ما تسمع وترى..!!

    ولقد أنجز يزيد وصيّة أبي أيوب..

    وفي قلب القسطنطينية، وهي اليوم استامبول، ثوى جثمان رجل عظيم، جدّ عظيم..!!


    وحتى قبل أن يغمر الاسلام تلك البقاع، كان أهل القسطنطينية من الروم، ينظرون الى أبي أيوب في قبره نظرتهم الى قدّيس...

    وانك لتعجب اذ ترى جميع المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع ويقولون:

    " وكان الروم يتعاهدون قبره، ويزورونه.. ويستسقون به اذا قحطوا"..!!


    وعلى الرغم من المعارك التي انتظمت حياة أبي أيول، والتي لم تكن تمهله ليضع سيفه ويستريح، على الرغم من ذلك، فان حياته كانت هادئة، نديّة كنسيم الفجر..


    ذلك انه سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا فوعاه:

    " واذا صليت فصل صلاة مودّع..

    ولا تكلمن الناس بكلام تعتذر منه..

    والزم اليأس مما في أيدي الناس"...

    وهكذا لم يخض في لسانه فتنة..

    ولم تهف نفسه الى مطمع..

    وقضى حياته في أشواق عابد، وعزوف مودّع..

    فلما جاء أجله، لم يكن له في طول الدنيا وعرضها من حاجة سوى تلك الأمنية لتي تشبه حياته في بطولتها وعظمتها:

    " اذهبوا بجثماني بعيدا.. بعيدا.. في ارض الروم ثم ادفنوني هناك"...

    كان يؤمن بالنصر، وكان يرى بنور بصيرته هذه البقاع، وقد أخذت مكانها بين واحات الاسلام، ودخلت مجال نوره وضيائه..

    ومن ثمّ أراد أن يكون مثواه الأخير هناك، في عاصمة تلك البلاد، حيث ستكون المعركة الأخيرة الفاصلة، وحيث يستطيع تحت ثراه الطيّب، أن يتابع جيوش الاسلام في زحفها، فيسمع خفق أعلامها، وصهيل خيلها، ووقع أقدامها، وصصلة سيوفها..!!

    وانه اليوم لثاو هناك..

    لا يسمع صلصلة السيوف، ولا صهيل الخيول..

    قد قضي الأمر، واستوت على الجوديّ من أمد بعيد..

    لكنه يسمع كل يوم من صبحه الى مسائه، روعة الأذان المنطلق من المآذن المشرّعة في الأفق..

    أن:

    الله أكبر..

    الله أكبر..

    وتجيب روحه المغتبطة في دار خلدها، وسنا مجدها:

    هذا ما وعدنا الله ورسوله

    وصدق الله ورسوله....

    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة : رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 710
    عارضة الطاقة :
    رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

    متميز البراء بن مالك - الله ، و الجنة

    مُساهمة من طرف Admin السبت ديسمبر 24 2011, 00:26


    البراء بن مالك - الله ، و الجنة


    هو ثاني أخوين عاشا في الله، وأعطيا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا نكا وأزهر مع الأيام..

    أما أولهما فهو أنس بن مالك خادم رسول الله عليه السلام.

    أخذته أمه أم سليم الى الرسول وعمره يوم ذاك عشر سنين وقالت:

    "يا رسول الله..
    هذا أنس غلامك يخدمك، فادع الله له"..

    فقبّله رسول الله بين عينيه ودعا له دعوة ظلت تحدو عمره الطويل نحو الخير والبركة..

    دعا له لرسول فقال:

    " اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له، وأدخله الجنة"..

    فعاش تسعا وتسعين سنة، ورزق من البنين والحفدة كثيرين، كما أعطاه الله فيما أعطاه من رزق، بستانا رحبا ممرعا، كان يحمل الفاكهة في العام مرتين..!!

    **


    وثاني الأخوين، هو البراء بن مالك..

    عاش حياته العظيمة المقدامة، وشعاره:

    " الله، والجنة"..

    ومن كان يراه، وهو يقاتل في سبيل الله، كان يرى عجبا يفوق العجب..

    فلم يكن البراء حين يجاهد المشركين بسيفه ممن يبحثون عن النصر، وان يكن النصر آنئذ أجلّ غاية.. انما كان يبحث عن الشهادة..

    كانت كل أمانيه، أن يموت شهيدا، ويقضي نحبه فوق أرض معركة مجيدة من معارك الاسلام والحق..

    من أجل هذا، لم يتخلف عن مشهد ولا غزوة..

    وذات يوم ذهب اخوانه يعودونه، فقرأ وجوههم ثم قال:

    " لعلكم ترهبون أن أموت على فراشي..

    لا والله، لن يحرمني ربي الشهادة"..!!

    ولقد صدّق الله ظنه فيه، فلم يمت البراء على فراشه، بل مات شهيدا في معركة من أروع معارك الاسلام..!!

    **


    ولقد كانت بطولة البراء يوم اليمامة خليقة به.. خليقة بالبطل الذي كان عمر بن الخطاب يوصي ألا يكون قائدا أبدا، لأن جسارته واقدامه، وبحثه عن الموت.. كل هذا يجعل قيادته لغيره من المقاتلين مخاطرة تشبه الهلاك..!!

    وقف البراء يوم اليمامة وجيوش الاسلام تحت امرة خالد تتهيأ للنزال، وقف يتلمظ مستبطئا تلك اللحظات التي تمرّ كأنها السنين، قبل أن يصدر القائد أمره بالزحف..

    وعيناه الثاقبتان تتحركان في سرعة ونفاذ فوق أرض المعركة كلها، كأنهما تبحثان عن أصلح مكان لمصرع البطل..!!

    أجل فما كان يشغله في دنياه كلها غير هذه الغاية..

    حصاد كثير يتساقط من المشركين دعاة الظلام والباطل بحدّ سيفه الماحق..

    ثم ضربة تواتيه في نهاية المعركة من يد مشركة، يميل على أثرها جسده الى الرض، على حين تأخذ روحه طريقها الى الملأ الأعلى في عرس الشهداء، وأعياد المباركين..!!

    **


    ونادى خالد: الله أكبر، فانطلقت الصفوف المرصوصة الى مقاديرها، وانطلق معها عاشق الموت البراء بن مالك..

    وراح يجندل أتباع مسيلمة الكذاب بسيفه.. وهم يتساقطون كأوراق الخريف تحت وميض بأسه..

    لم يكن جيش مسيلمة هزيلا، ولا قليلا.. بل كان أخطر جيوش الردة جميعا..

    وكان بأعداده، وعتاده، واستماتة مقاتليه، خطرا يفوق كل خطر..

    ولقد أجابوا على هجوم المسلمين شيء من الجزع. وانطلق زعماؤهم وخطباؤهم يلقون من فوق صهوات جيادهم كلمات التثبيت. ويذكرون بوعد الله..

    وكان البراء بن مالك جميل الصوت عاليه..

    وناداه القائد خالد تكلم يا براء..

    فصاح البراء بكلمات تناهت في الجزالة، والدّلالة، القوة..

    تلك هي:

    " يا أهل المدينة..

    لا مدينة لكم اليوم..

    انما هو الله والجنة"..

    كلمات تدل على روح قائلها وتنبئ بخصاله.

    أجل..

    انما هو الله، والجنة..!!

    وفي هذا الموطن، لا ينبغي أن تدور الخواطر حول شيء آخر..

    حتى المدينة، عاصمة الاسلام، والبلد الذي خلفوا فيه ديارهم ونساءهم وأولادهم، لا ينبغي أن يفكروا فيها، لأنهم اذا هزموا اليوم، فلن تكون هنلك مدينة..

    وسرت كلمات البراء مثل.. مثل ماذا..؟

    ان أي تشبيه سيكون ظلما لحقيقة أثرها وتأثيرها..

    فلنقل: سرت كلمات البراء وكفى..

    ومضى وقت وجيز عادت بعده المعركة الى نهجها الأول..

    المسلمون يتقدمون، يسبقهم نصر مؤزر.

    والمشركون يتسلقطون في حضيض هزيمة منكرة..

    والبراء هناك مع اخوانه يسيرون لراية محمد صلى الله عليه وسلم الى موعدها العظيم..

    واندفع المشركون الى وراء هاربين، واحتموا بحديقة كبيرة دخلوها ولاذوا بها..

    وبردت المعركة في دماء المسلمين، وبدا أن في الامان تغير مصيرها بهذه الحيلة التي لجأ اليها أتباع مسيلمة وجيشه..

    وهنا علا البراء ربوة عالية وصاح:

    " يا معشر المسلمين..

    احملوني وألقوني عليهم في الحديقة"..

    ألم أقل لكم انه لا يبحث عن النصر بل عن الشهادة..!!

    ولقد تصوّر في هذه الخطة خير ختام لحياته، وخير صورة لمماته..!!

    فهو حين يقذف به الى الحديقة، يفتح المسلمين بابها، وفي نفس الوقت كذلك تكون أبواب الجنة تأخذ زينتها وتتفتح لاستقبال عرس جديد ومجيد..!!

    **


    ولم ينتظر البراء أن يحمله قومه ويقذفوا به، فاعتلى هو الجدار، وألقى بنفسه داخل الحديقة وفتح الباب، واقتحمته جيوش الاسلام..

    ولكن حلم البراء لم يتحقق، فلا سيوف المشركين اغتالته، ولا هو لقي المصرع الذي كان يمني به نفسه..

    وصدق أبو بكر رضي الله عنه:

    " احرص على الموت..

    توهب لك الحياة"..!!


    صحيح أن جسد البطل تلقى يومئذ من سيوف المشركين بضعا وثمانين ضربة، أثخنته ببضع وثمانين جراحة، حتى لقد ظل بعد المعركة شهرا كاملا، يشرف خالد بن الوليد نفسه على تمريضه..

    ولكن كل هذا الذي أصابه كان دون غايته وما يتمنى..

    بيد أن ذلك لا يحمل البراء على اليأس.. فغدا تجيء معركة، ومعركة، ومعركة..

    ولقد تنبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه مستجاب الدعوة..

    فليس عليه الا أن يدعو ربه دائما أن يرزقه الشهادة، ثم عليه ألا يعجل، فلكل أجل كتاب..!!


    ويبرأ البراء من جراحات يوم اليمامة..

    وينطلق مع جيوش الاسلام التي ذهبت تشيّع قوى الظلام الى مصارعها.. هناك حيث تقوم امبراطوريتان خرعتان فانيتان، الروم والفرس، تحتلان بجيوشهما الباغية بلاد الله، وتستعبدان عباده..

    ويضرب البراء بسيفه، ومكان كل ضربة يقوم جدار شاهق في بناء العالم الجديد الذي ينمو تحت راية الاسلام نموّا سريعا كالنهار المشرق..

    **


    وفي احدى حروب العراق لجأ الفرس في قتالهم الى كل وحشية دنيئة يستطيعونها..

    فاستعملوا كلاليب مثبتة في أطراف سلاسل محمأة بالنار، يلقونها من حصونهم، فتخطف من تناله من المسلمين الذين لا يستطيعون منها فكاكا..

    وكان البراء وأخوه العظيم أنس بن مالك قد وكل اليهما مع جماعة من المسلمين أمر واحد من تلك الحصون..

    ولكن أحد هذه الكلاليب سقط فجأة، فتعلق بأنس ولم يستطع أنس أن السلسلة ليخلص نفسه، اذ كانت تتوهج لهبا ونارا..

    وأبصرالبراء المشهد لإاسرع نحو أخيه الذي كانت السلسلة المحمأة تصعد به على سطح جدار الحصن.. وقبض على السلسلة بيديه وراح يعالجها في بأس شديد حتى قصمها وقطعها.. ونجا أنس وألقى البراء ومن معه نظرة على كفيه فلم يجدوهما مكانهما..!!

    لقد ذهب كل ما فيهما من لحم، وبقي هيكلهما العظمي مسمّرا محترقا..!!

    وقضى البطل فترة أخرى في علاج بطيء حتى بريء..

    **


    أما آن لعاشق الموت أن يبلغ غايته..؟؟

    بلى آن..!!

    وهاهي ذي موقعة تستر تجيء ليلاقي المسلمون فيها جيوش فارس

    ولتكون لـ البراء عيدا أي عيد..

    **


    احتشد أهل الأهواز، والفرس في جيش كثيف ليناجزوا المسلمين..

    وكتب امير المؤمنين عمر بن الخطاب الى سعد بن أبي وقاص بالكوفة ليرسل الى الأهواز جيشا..

    وكتب الى أبي موسى الأشعري بالبصرة ليرسل الى الأهواز جيشا، قائلا له في رسالته:

    " اجعل امير الجند سهيل بن عديّ..

    وليكن معه البراء بن مالك"..



    والتقى القادمون من الكوفة بالقادمين من البصرة ليواجهوا جيش الأهواز وجيش الفرس في معركة ضارية..

    كان الاخوان العظيمان بين الحنود المؤمنين.. أنس بن مالك، والبراء بن مالك..

    وبدأت الحرب بالمبارزة، فصرع البراء وحده مائة مبارز من الفرس..

    ثم التحمت الجيوش، وراح القتلى يتساقطون من الفرقين كليهما في كثرة كاثرة..

    واقترب بعض الصحابة من البراء، والقتال دائر، ونادوه قائلين:

    " أتذكر يا براء قول الرسول عنك: ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء بن مالك..؟

    يا براء أقسم على ربك، ليهزمهم وينصرنا"..

    ورفع البراء ذراعيه الى السماء ضارعا داعيا:

    " اللهم امنحنا أكنافهم..

    اللهم اهزمهم..

    وانصرنا عليهم..

    وألحقني اليوم بنبيّك"..

    ألقى على جبين أخيه أنس الذي كان يقاتل قريب امنه.. نظرة طويلة، كأنه يودّعه..

    وانقذف المسلمون في استبسال لم تألفه الدنيا من سواهم..

    ونصروا نصرا مبينا.

    **


    ووسط شهداء المعركة، كان هناك البراء تعلو وجهه ابتسامة هانئة كضوء الفجر.. وتقبض يمناه على حثيّة من تراب مضمّخة بدمه الطهور..

    لقد بلغ المسافر داره..

    وأنهى مع اخوانه الشهداء رحلة عمر جليل وعظيم، ونودوا:

    ( أن تلكم الجنة، أورثتموها بما كنتم تعملون)....

    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة : رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 710
    عارضة الطاقة :
    رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

    متميز أسيد بن خضير - بطل يوم السقيفة

    مُساهمة من طرف Admin السبت ديسمبر 24 2011, 00:27


    أسيد بن خضير - بطل يوم السقيفة



    ورث المكارم كابرا عن كابر..

    فأبوه خضير الكتائب كان زعيم الأوس، وكان واحدا من كبار أشراف العرب في الجاهلية، ومقاتليهم الأشداء..

    وفيه يقول الشاعر:

    لو أن المنايا حدن عن ذي مهابة

    لهبن خضيرا يوم غلّق واقما

    يطوف به، حتى اذا الليل جنّه

    تبوأ منه مقعدا متناغما
    وورث أسيد عن أبيه مكانته، وشجاعته وجوده، فكان قبل أن يسلم، واحدا من زعماء المدينة وأشراف العرب، ورماتها الأفذاذ..

    فلما اصطفاه الاسلام، وهدي الى صراط العزيز الحميد، تناهى عزه.

    وتسامى شرفه، يوم أخذ مكانه، وأخذ واحدا من انصار الله وأنصار رسوله، ومن السابقين الى الاسلام العظيم..

    **


    ولقد كان اسلامه يوم أسلم سريعا، وحاسما وشريفا..

    فعندما أرسل الرسول عليه السلام مصعب بن عمير الى المدينة ليعلم ويفقه المسلمين من الأنصار الذين بايعوا النبي عليه السلام عل الاسلام بيعة العقبة الأولى، وليدعو غيرهم الى دين الله.

    يومئذ، جلس أسيد بن خضير، وسعد بن معاذ، وكانا زعيمي قومهما، يتشاوران في أمر هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفّه دينهما، ويدعو الى دين جديد لا يعرفونه..

    وقال سعد لأسيد:" انطلق الى هذا الرجل فازجره"..

    وحمل أسيد حربته، وأغذ السير الى حيث كان مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا الى الاسلام.

    وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرة من الناس تصغي في اهتمام للكلمات الرشيدة التي يدعوهم بها الى الله، مصعب بن عمير..

    وفجأهم أسيد بغضبه وثورته..

    وقال له مصعب:

    " هل لك في أن تجلس فتسمع.. فان رضيت أمرنا قبلته، و ان كرهته، كففنا عنك ما تكره"..؟؟

    **


    كان أسيد رجلا.. وكان مستنير العقل ذكيّ القلب حتى لقبه أهل المدينة بالكامل.. وهو لقب كان يحمله أبوه من قبله..

    فلما رأى مصعبا يحتكم به الى المنطق والعقل، غرس حربته في الأرض، وقال لمصعب:

    لقد أنصفت: هات ما عندك..

    وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن، ويفسّر له دعوة الدين الجديد. الدين الحق الذي أمر محمد عليه الصلاة والسلام بتبليغه ونشر رايته.

    ويقول الذين حضروا هذا المجلس:

    " والله لقد عرفنا في وجه أسيد الاسلام قبل أن يتكلم..

    عرفناه في اشراقه وتسهّله"..!!

    **


    لم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد مبهورا:

    " ما أحسن هذا الكلام وأجمله..

    كيف تصنعون اذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين".؟

    قال له مصعب:

    " تطهر بدنك، وثوبك، وتشهد شهادة الحق، ثم تصلي"..

    ان شخصية أسيد شخصية مستقيمة قوية مستقيمة وناصعة، وهي اذ تعرف طريقها ، لا تتردد لحظة أمام ارادتها الحازمة..

    ومن ثمّ، قام أسيد في غير ارجاء ولا ابطاء ليستقبل الدين الذي انفتح له قلبه، وأشرقت به روحه، فاغتسل وتطهر، ثم سجد لله رب العالمين، معلنا اسلامه، مودّعا أيام وثنيّته، وجاهليته..!!

    كان على أسيد أن يعود لسعد بن معاذ، لينقل اليه أخبار المهمة التي كلفه بها.. مهمة زجر مصعب بن عمير واخراجه..

    وعاد الى سعد..

    وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد لمن حوله:

    " أقسم لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به".!!

    أجل..

    لقد ذهب بوجه طافح بالمرارة، والغضب والتحدي..

    وعاد بوجه تغشاه السكينة والرحمة والنور..!!

    **


    وقرر أسيد أن يستخدم ذكاءه قليلا..

    انه يعرف أن سعد بن معاذ مثله تماما في صفاء جوهره ومضاء عزمه، وسلامة تفكيره وتقديره..

    ويعلم أنه ليس بينه وبين الاسلام سوى أن يسمع ما سمع هو من كلام الله، الذي يحسن ترتيله وتفسيره سفير الرسول اليهم مصعب بن عمير..

    لكنه لو قال لسعد: اني أسلمت، فقم وأسلم، لكانت مجابهة غير مأمونة العاقبة..

    اذن فعليه أن يثير حميّة سعد بطريقة تدفعه الى مجلس مصعب حتى يسمع ويرى..

    فكيف السبيل لهذا..؟

    كان مصعب كما ذكرنا من قبل ينزل ضيفا على أسعد بن زرارة..

    وأسعد بن زرارة هو ابن خالة سعد بن معاذ..

    هنالك قال أسيد لسعد:

    " لقد حدّثت أن بين الحارثة قد خرجوا الى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك"..

    وقام سعد، تقوده الحميّة والغضب، وأخذ الحربة، وسار مسرعا الى حيث أسعد ومصعب، ومن معهما من المسلمين..

    ولما اقترب من المجلس لو يجد ضوضاء ولا لغطا، وانما هي السكينة تغشى جماعة يتوسطهم مصعب بن عمير، يتلو آيات الله في خشوع، وهم يصغون اليه في اهتمام عظيم..

    هنالك أدرك الحيلة التي نسجها له أسيد لكي يحمله على السعي الى هذا المجلس، والقاء السمع لما يقوله سفير الاسلام مصعب بن عمير.

    ولقد صدقت فراسة أسيد في صاحبه، فما كاد سعد يسمع حتى شرح الله صدره للاسلام، وأخذ مكانه في سرعة الضوء بين المؤمنين السابقين..!!

    **


    كان أسيد يحمل في قلبه ايمانا وثيقا ومضيئا..

    وكان ايمانه بفيء عليه من الأناة والحلم وسلامة التقدير ما يجعله أهلا للثقة دوما..

    وفي غزوة بني المصطلق تحركت مغايظ عبدالله بن أبيّ فقال لمن حوله من أهل المدينة:

    " لقد أحللتمومهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم..

    أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا الى غير دياركم..

    أما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل"..

    سمع الصحابي الجليل زيد بن الأرقم هذه الكلمات، بل هذه السموم المنافقة المسعورة، فكان حقا عليه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    وتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، وقابله أسيد فقال له النبي عليه السلام:

    أوما بلغك ما قال صاحبكم..؟؟

    قال أسيد:

    وأيّ صاحب يا رسول الله..؟؟

    قال الرسول:

    عبدالله بن أبيّ!!

    قال أسيد:

    وماذا قال..؟؟

    قال الرسول:

    زعم انه ان رجع الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل.

    قال أسيد:

    فأنت والله، يا رسول الله، تخرجه منها ان شاء الله.. هو والله الذليل، وأنت العزيز..

    ثم قال أسيد:

    " يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك وان قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه على المدينة ملكا، فهو يرى أن الاسلام قد سلبه ملكا"..

    بهذا التفكير الهادئ العميق المتزن الواضح، كان أسيد دائما يعالج القضايا ببديهة حاضرة وثاقبة..


    وفي يوم السقيفة، اثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعلن فريق من الأنصار، وعلى رأسهم سعد بن عبادة أحقيتهم بالخلافة، وطال الحوار، واحتدمت المناقشة، كان موقف أسيد، وهو كما عرفنا زعيم أنصاري كبير، كان موقفه فعالا في حسم الموقف، وكانت كلماته كفلق الصبح في تحديد الاتجاهه..

    وقف أسيد فقال مخاطبا فريق الأنصار من قومه:

    " تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين..

    فخليفته اذن ينبغي أن يكون من المهاجرين..

    ولقد كنا أنصار رسول الله..

    وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته"..

    وكانت كلماته، بردا، وسلاما..

    **


    ولقد عاش أسيد بن خضير رضي الله عنه عابدا، قانتا، باذلا روحه وماله في سبيل الخير، جاعلا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار نصب عينيه:

    " اصبروا.. حتى تلقوني على الحوض"..

    ولقد كان لدينه وخلقه موضع تكريم الصدّيق حبّه، كذلك كانت له نفس المكانة والمنزلة في قلب أمير المؤمنين عمر، وفي أفئدة الصحابة جميعا.

    وكان الاستماع لصوته وهو يرتل القرآن احدى المغانم الكبرى التي يحرص الأصحاب عليها..

    ذلك الصوت الخاشع الباهر المنير الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن الملائكة دنت من صاحبه ذات ليلة لسماعه..

    وفي شهر شعبان عام عشرين للهجرة، مات أسيد..

    وأبى أمير المؤمنين عمر الا أن يحمل نعشه فوق كتفه..

    وتحت ثرى البقيع وارى الأصحاب جثمان مؤمن عظيم..

    وعادوا الى المدينة وهم يستذكرون مناقبه ويرددون قول الرسول الكريم عنه:

    " نعم الرجل.. أسيد بن خضير"..

    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة : رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 710
    عارضة الطاقة :
    رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

    متميز عمرو بن الجموح - أريد أن أخطر بعرجتي في الجنة

    مُساهمة من طرف Admin السبت ديسمبر 24 2011, 00:28


    عمرو بن الجموح - أريد أن أخطر بعرجتي في الجنة


    انه صهر عبدالله بن حرام، اذ كان زوجا لأخته هند بن عمرو..

    وكان ابن الجموح واحدا من زعماء المدينة، وسيدا من سادات بني سلمة..

    سبقه الى الاسلام ابنه معاذ بن عمرو الذي كان أحد الأنصار السبعين، أصحاب البيعة الثانية..

    وكان معاذ بن عمرو وصديقه معاذ بن جبل يدعوان للاسلام بين أهل المدينة في حماسة الشباب المؤمن الجريء..
    وكان من عادة الناس هناك أن بتخذ الأشراف من بيوتهم أصناما رمزية غير تلك الأصنام الكبيرة المنصوبة في محافلها، والتي تؤمّها جموع الناس..

    وعمرو بن الجموح مع صديقه معاذ بن جبل على أن يجعلا من صنم عمرو بن جموح سخرية ولعبا..

    فكانا يدلجان عليه ليلا، ثم يحملانه ويطرحانه في حفرة يطرح الناس فيه فضلاتهم..

    ويصيح عمرو فلا يجد منافا في مكانه، ويبحث عنه حتى يجده طريح تلك الحفرة.. فيثور ويقول:

    ويلكم من عدا على آلهتنا الليلة..!؟

    ثم يغسله ويطهره ويطيّبه..

    فاذا جاء ليل جديد، صنع المعاذان معاذ بن عمرو ومعاذ بن جبل بالصنم مثل ما يفعلان به كل ليلة.

    حتى اذا سئم عمرو جاء بسيفه ووضعه في عنق مناف وقال له: ان كان فيك خير فدافع عن نفسك..!!

    فلما اصبح فلم يجده مكانه.. بل وجده في الحفرة ذاتها طريحا، بيد أن هذه المرة لم يكن في حفرته وحيدا، بل كان مشدودا مع كلب ميت في حبل وثيق.

    واذا هو في غضبه، وأسفه ودهشه، اقترب منه بعض أشراف المدينة الذين كانوا قد سبقوا الى الاسلام.. وراحوا، وهم يشيرون بأصابعهم الى الصنم المنكّس المقرون بكلب ميت، يخاطبون في عمرو بن الجموح عقله وقلبه ورشده، محدثينه عن الاله الحق، العلي الأعلى، الذي ليس كمثله شيء.

    وعن محمد الصادق الأمين، الذي جاء الحياة ليعطي لا ليأخذ.. ليهدي، لا ليضل..

    وعن الاسلام، الذي جاء يحرر البشر من الأعلال، جميع الأغلل، وجاء يحيى فيهم روح الله وينشر في قلوبهم نوره.

    وفي لحظات وجد عمرو نفسه ومصيره..

    وفي لحظات ذهب فطهر ثوبه، وبدنه.. ثم تطيّب وتأنق، وتألق، وذهب عالي الجبهة مشرق النفس، ليبايع خاتم المرسلين، وليأخذ مكانه مع المؤمنين.

    **


    قد يسأل سائل نفسه، كيف كان رجال من أمثال عمرو بن الجموح.. وهم زعماء قومهم وأشراف.. كيف كانوا يؤمنون بأصنام هازلة كل هذا الايمان..؟

    وكيف لم تعصمهم عقولهم عن مثل هذا الهراء.. وكيف نعدّهم اليوم، حتى مع اسلامهم وتضحياتهم، من عظماء الرجال..؟

    ومثل هذا السؤال يبدو ايراده سهلا في أيامنا هذه حيث لا نجد طفلا يسيغ عقله أن ينصب في بيته خشبة ثم يعبدها..

    لكن في أيام خلت، كانت عواطف البشر تتسع لمثل هذا الصنيع دون أن يكون لذكائهم ونبوغهم حيلة تجاه تلك التقاليد..!!

    وحسبنا لهذا مثلا أثينا..

    أثينا في عصر باركليز وفيتاغورس وسقراط..

    أثينا التي كانت قد بلغت رقيّا فكريا يبهر الأباب، كان أهلها جميعا: فلاسفة، وحكاما، وجماهير يؤمنون بأصنام منحوتة تناهي في البلاهة والسخرية!!

    ذلك أن الوجدان الديني في تلك العصور البعيدة، لم يكن يسير في خط مواز للتفوق العقلي...

    **


    أسلم عمرو بن الجموح قلبه، وحياته لله رب العالمين، وعلى الرغم من أنه كان مفطورا على الجود والسخاء، فان الاسلام زاد جوده مضاء، فوضع كل ماله في خدمة دينه واخوانه..

    سأل الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة من بني سلمة قبيلة عمرو بن الجموح فقال:

    من سيّدكم يا بني سلمة..؟

    قالوا: الجدّ بن قيس، على بخل فيه..

    فقال عليه الصلاة والسلام:

    وأي داء أدوى من البخل!!

    بل سيّدكم الجعد الأبيض، عمرو بن الجموح..

    فكانت هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكريما لابن الجموح، أي تكريم..!

    وفي هذا قال شاعر الأنصار:

    فسوّد عمرو بن الجموح لجوده

    وحق لعمرو بالنّدى أن يسوّدا

    اذا جاءه السؤال أذهب ماله

    وقال: خذوه، انه عائد غدا

    وبمثل ما كان عمرو بن الجموح يجود بماله في سبيل الله، أراد أن يجود بروحه وبحياته..

    ولكن كيف السبيل؟؟

    ان في ساقه عرجا يجعله غير صالح للاشتراك في قتال.

    وانه له أربعة أولاد، كلهم مسلمون، وكلهم رجال كالأسود، كانوا يخرجون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزو، ويثابرون على فريضة الجهاد..

    ولقد حاول عمرو أن يخرج في غزوة بدر فتوسّل أبناؤه الى النبي صلى الله عليه وسلم كي يقنعه بعدم الخروج، أ، يأمره به اذا هو لم يقتنع..

    وفعلا، أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الاسلام يعفيه من الجهاد كفريضة، وذلك لعجزه الماثل في عرجه الشديد..

    بيد أنه راح يلحّ ويرجو.. فأمره الرسول بالبقاء في المدينة.

    **


    وجاءت غزوة أحد فذهب عمرو الى النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل اليه أن يأذن له وقال له:

    " يا رسول الله انّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك الى الجهاد..

    ووالله اني لأرجو أن، أخطر، بعرجتي هذه في الجنة"..

    وأمام اصراره العظيم أذن له النبي عليه السلام بالخروج، فأخذ سلاحه، وانطلق يخطر في حبور وغبطة، ودعا ربه بصوت ضارع:

    " اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني الى أهلي".

    والتقى الجمعان يوم أحد..

    وانطلق عمرو بن الجموح وأبناؤه الأربعة يضربون بسيوفهم جيوش الشرك والظلام..

    كان عمرو بن الجموح يخطر وسط المعمعة الصاحبة، ومع كل خطرة يقطف سيفه رأسا من رؤوس الوثنية..

    كان يضرب الضربة بيمينه، ثم يلتفت حواليه في الأفق الأعلى، كأنه يتعجل قدوم الملاك الذي سيقبض روحه، ثم يصحبها الى الجنة..

    أجل.. فلقد سأل ربه الشهادة، وهو واثق أن الله سبحانه وتعالى قد استجاب له..

    وهو مغرم بأن يخطر بساقه العرجاء في الجنة ليعلم أهلها أن محمدا رسول اله صلى الله عليه وسلم، يعرف كيف يختار الأصحاب، وكيف يربّي الرجال..!!

    **


    وجاء ما كان ينتظر.

    ضربةسيف أومضت، معلنة ساعة الزفاف..

    زفاف شهيد مجيد الى جنات الخلد، وفردوس الرحمن..!!

    **


    واذ كان المسلمون يدفنون شهداءهم قال الرسول عليه الصلاة والسلام أمره الذي سمعناه من قبل:

    " انظروا، فاجعلوا عبدالله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد، فانهما كانا في الدنيا متحابين متصافيين"..!!

    **


    ودفن الحبيبان الشهيدان الصديقان في قبر واحد، تحت ثرى الأرض التي تلقت جثمانيهما الطاهرين، بعد أن شهدت بطولتهما الخارقة.

    وبعد مضي ست وأربعين سنة على دفنهما، نزل سيل شديد غطّى أرض القبور، بسبب عين من الماء أجراها هناك معاوية، فسارع المسلمون الى نقل رفات الشهداء، فاذا هم كما وصفهم الذين اشتركوا في نقل رفاتهم:

    " ليّنة أجسادهم..

    تتثنى أطرافهم"..!


    وكان جابر بن عبدالله لا يزال حيا، فذهب مع أهله لينقل رفات أبيه عبدالله بن عمرو بن حرام، ورفات زوج عمته عمرو بن الجموح..

    فوجدهما في قبرهما، كأنهما نائمان.. لم تأكل الأرض منهما شيئا، ولم تفارق شفاههما بسمة الرضا والغبطة التي كانت يوم دعيا للقاء الله..

    أتعجبون..؟

    كلا، لا تعجبوا..

    فان الأرواح الكبيرة، التقية، النقية، التي سيطرت على مصيرها.. تترك في الأجساد التي كانت موئلا لها، قدرا من المناعة يدرأ عنها عوامل التحلل، وسطوة التراب..

    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة : رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 710
    عارضة الطاقة :
    رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

    متميز سعد بن معاذ - هنيئا لك يا أبا عمرو

    مُساهمة من طرف Admin السبت ديسمبر 24 2011, 00:28


    سعد بن معاذ - هنيئا لك يا أبا عمرو


    في العام الواحد والثلاثين من عمره، أسلم..

    وفي السابع والثلاثين مات شهيدا..
    وبين يوم اسلامه، ويوم وفاته، قضى سعد بن معاذ رضي الله عنه أياما شاهقة في خدمة الله ورسوله..

    **


    انظروا..

    أترون هذا الرجل الوسيم، الجليل، الفارع الطول، المشرق الوجه، الجسيم، الجزل.؟؟

    انه هو..

    يقطع الأرض وثبا وركضا الى دار أسعد بن زرارة بيرى هذا الرجل الوافد من مكة مصعب بن عمير الذي بعث به محمدا عليه الصلاة والسلام الى المدينة يبشّر فيها بالتوحيد والاسلام..

    أجل.. هو ذاهب الى هناك ليدفع بهذا الغريب خارج حدود المدينة، حاملا معه دينه.. وتاركا للمدينة دينها..!!

    **


    ولكنه لا يكاد يقترب من مجلس مصعب في دار ابن خالته أسيد بن زرارة، حتى ينتعش فؤاده بنسمات حلوة هبّت عليه هبوب العافية..

    ولا يكاد يبلغ الجالسين، ويأخذ مكانه بينهم، ملقيا سمعه لكلمات مصعب حتى تكون هداية الله قد أضاءت نفسه وروحه..

    وفي احدى مفاجآت القدر الباهرة المذهلة، يلقي زعيم الأنصار حبته بعيدا، ويبسط يمينه مبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    وباسلام سعد بن معاذ تشرق في المدينة شمس جديدة، ستدور في فلكها قلوب كثيرة تسلم مع حمد لله رب العالمين..!!

    أسلم سعد.. وحمل تبعات اسلامه في بطولة وعظمة..

    وعندما هاجر رسول الله وصحبه الى المدينة كانت دور بني عبد الأشهل قبيلة سعد مفتحة الأبواب للمهاجرين، وكانت أموالهم كلها تحت تصرّفهم في غير منّ، ولا أذى.. ولا حساب..!!

    **


    وتجيء غزوة بدر..

    ويجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار، ليشاورهم في الأمر.

    وييمّم وجهه الكريم شطر الأنصار ويقول:

    " أشيروا عليّ أيها الناس.."

    ونهض سعد بن معاذ قائما كالعلم.. يقول:

    " يا رسول الله..

    لقد آمنا بك، وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا..

    فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك..

    ووالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا..

    انا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء..

    ولعلّ الله يريك ما تقرّ به عينك...

    فسر بنا على بركة الله"...

    **


    أهلت كلمات سعد كالبشريات، وتألق وجه الرسول رضا وسعادة وغبطة، فقال للمسلمين:

    " سيروا وأبشروا، فان الله وعدني احدى الطائفتين.. والله لكأني أنظر الى مصرع القوم"..

    وفي غزوة أحد، وعندما تشتت المسلمون تحت وقع الباغتة الداهمة التي فاجأهم بها جيش المشركين، لم تكن العين لتخطئ مكان سعد بن معاذ..

    لقد سمّر قدميه في الأرض بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذود عنه ويدافع في استبسال هو له أهل وبه جدير..

    **


    وجاءت غزوة الخندق، لتتجلى رجولة سعد وبطولته تجليا باهرا ومجيدا..

    وغزوة الخندق هذه، آية بينة على المكايدة المريرة الغادرة التي كان المسلمون يطاردون بها في غير هوادة، من خصوم لا يعرفون في خصومتهم عدلا ولا ذمّة..

    فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحيون بالمدينة في سلام يعبدون ربهم، ويتواصون بطاعته، ويرجون أن تكف قريش عن اغارتها وحروبها، اذا فريق من زعماء اليهود يخرجون خلسة الى مكة محرّضين قريشا على رسول الله، وباذلين لها الوعود والعهود أن يقفوا بجانب القرشيين اذا هم خرجوا لقتال المسلمين..

    واتفقوا مع المشركين فعلا، ووضعوا معا خطة القتال والغزو..

    وفي طريقهم وهم راجعون الى المدينة حرّضوا قبيلة من أكبر قبائل العرب، هي قبيلة غطفان واتفقوا مع زعمائها على الانضمام لجيش قريش..

    وضعت خطة الحرب، ووظعت أدوارها.. فقريش وغطفان يهاجمان المدينة بجيش عرمرم كبير..

    واليهود يقومون بدور تخريبي داخل المدينة وحولها في الوقت الذي يباغتها فيه الجيش المهاجم..

    ولما علم النبي عليه الصلاة والسلام بالمؤامرة الغادرة راح يعدّ لها العدّة.. فأمر بحفر خندق حول المدينة ليعوق زحف المهاجمين.

    وأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة الى كعب بن أسد زعيم يهود بني قريظة، ليتبيّنا حقيقة موقف هؤلاء من الحرب المرتقبة، وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يهود بني قريظة عهود ومواثيق..

    فلما التقى مبعوثا الرسول بزعيم بني قريظة فوجئا يقول لكم:

    " ليس بيننا وبين محمد عهد ولا عقد"..!!

    **


    عز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتعرض أهل المدينة لهذا الغزو المدمدم والحصار المنهك، ففكر في أن يعزل غطفان عن قريش، فينقض الجيش المهاجم بنصف عدده، ونصف قوته، وراح بالفعل يفاوض زعماء غطفان على أن ينفضوا أيديهم عن هذه الحرب، ولهم لقاء ذلك ثلث ثمار المدينة، ورضي قادة غطفان، ولم يبق الا أن يسجل الاتفاق في وثيقة ممهورة..

    وعند هذا المدى من المحاولة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ لم ير من حقه أن ينفرد بالأمر، فدعا اليه أصحابه رضي الله عنهم ليشاورهم..

    واهتم عليه الصلاة والسلام اهتماما خاصا برأي سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة.. فهما زعيما المدينة، وهما بهذا أصحاب حق أول في مناقشة هذا الأمر، واختيار موقف تجاهه..

    **


    قصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما حديث التفاوض الذي جرى بينه وبين زعماء غطفان.. وأنبأهما أنه انما لجأ الى هذه المحاولة، رغبة منه في أن يبعد عن المدينة وأهلها هذا الهجوم الخطير، والحصار الرهيب..

    وتقدم السعدان الى رسول الله بهذا السؤال:

    " يا رسول الله..

    أهذا رأي تختاره، أم وحي أمرك الله به"؟؟

    قال الرسول:

    " بل أمر أختاره لكم..

    والله ما أصنع ذلك الا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم الى أمر ما"..

    وأحسّ سعد بن معاذ أن أقدارهم كرجال ومؤمنين تواجه امتحانا، أي امتحان..

    هنالك قال:

    " يا رسول الله..

    قد كنا وهؤلاء على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من مدينتنا تمرة، الا قرى، أي كرما وضيفة، أ، بيعا..

    أفحين أكرمنا الله بالاسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا..؟؟

    والله ما لنا بهذا من حاجة..

    ووالله لا نعطيهم الا السيف.. حتى يحكم الله بيننا وبينهم"..!!

    وعلى الفور عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه، وأنبأ زعماء غطفان أن أصحابه رفضوا مشروع المفاوضة، وأنه أقرّ رأيهم والتزم به..

    **


    وبعد أيام شهدت المدينة حصارا رهيبا..

    والحق أنه حصار اختارته هي لنفسها أكثر مما كان مفروضا عليها، وذلك بسبب الخندق الذي حفر حولها ليكون جنّة لها ووقاية..

    ولبس المسلمون لباس الحرب.

    وخرج سعد بن معاذ حاملا سيفه ورمحه وهو ينشد ويقول:

    لبث قليلا يشهد الهيجا الجمل ما أجمل الموت اذا حان الأجل

    وفي احدى الجولات تلقت ذراع سعد سهما وبيلا، قذفه به أحد المشركين..

    وتفجّر الدم من وريده وأسعف سريعا اسعافا مؤقتا يرقأ به دمه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل الى المسجد، وأن تنصب له به خيمة حتى يكون على قرب منه دائما أثناء تمريضه..

    وحمل المسلمون فتاهم العظيم الى مكانه في مسجد الرسول..

    ورفع سعد بصره الى السماء وقال:

    " اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها... فانه لا قوم أحب اليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، وكذبوه، وأخرجوه..

    وان كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل ما أصابني اليوم طريقا للشهادة..

    ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة"..!

    **


    لك الله يا سعد بن معاذ..!

    فمن ذا الذي يستطيع أن يقول مثل هذا القول، في مثل هذا الموقف سواك..؟؟

    ولقد استجاب الله دعاءه..

    فكانت اصابته هذه طريقه الى الشهادة، اذ لقي ربه بعد شهر، متأثرا بجراحه..

    ولكنه لم يمت حتى شفي صدرا من بني قريظة..

    ذلك أنه بعد أن يئست قريش من اقتحام المدينة، ودبّ في صفوف جيشها الهلع، حمل الجميع متاعهم وسلاحهم، وعادوا مخذولين الى مكة..

    ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترك بني قريظة، يفرضون على المدينة غدرهم كما شاؤوا، أمر لم يعد من حقه أن يتسامح تجاهه..

    هنالك أمر أصحابه بالسير الى بني قريظة.

    وهناك حاصروهم خمسة وعشرين يوما..

    ولما رأى هؤلاء ألا منجى لهم من المسلمين، استسلموا، وتقدموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجاء أجابهم اليه، وهو أن يحكم فيهم سعد بن معاذ.. وكان سعد حليفهم في الجاهلية..

    **


    أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه من جاؤوا بسعد بن معاذ

    من مخيمه الذي كان يمرّض فيه بالمسجد..

    جاء محمولا على دابة، وقد نال منه الاعياء والمرض..

    وقال له الرسول:

    " يا سعد احكم في بني قريظة".

    وراح سعد يستعيد محاولات الغدر التي كان آخرها غزوة الخندق والتي كادت لبمدينة تهلك فيها بأهلها..

    وقال سعد:

    " اني أرى أن يقتل مقاتلوهم..

    وتسبى ذراريهم..

    وتقسّم أموالهم.."

    وهكذا لم يمت سعد حتى شفي صدره من بني قريظة..

    **


    كان جرح سعد يزداد خطرا كل يوم، بل كل ساعة..

    وذات يوم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيادته، فألفاه يعيش في لحظات الوداع فأخذ عليه الصلاة والسلام رأسه ووضعه في حجره، وابتهل الى الله قائلا:

    " اللهم ان سعدا قد جاهد في سبيلك، وصدّق رسولك وقضى الذي عليه، فتقبّل روحه بخير ما تقبّلت به روحا"..!

    وهطلت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم على الروح المودّعة بردا وسلاما..

    فحاول في جهد، وفتح عينيه راجيا أن يكون وجه رسول الله آخر ما تبصرانه في الحياة وقال:

    " السلام عليك يا رسول الله..

    أما اني لأشهد أنك رسول الله"..

    وتملى وجه النبي وجه سعد آن ذاك وقال:

    " هنيئا لك يا أبا عمرو".

    **


    يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:

    " كنت ممن حفروا لسعد قبره..

    وكنا كلما حفرنا طبقة من تراب، شممنا ريح المسك.. حتى انتهينا الى اللحد"..

    وكان مصاب المسلمين في سعد عظيما..

    ولكن عزاءهم كان جليلا، حين سمعوا رسولهم الكريم يقول:

    " لقد اهتز عرش الرحمن لموت يعد بن معاذ"..

    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة : رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 710
    عارضة الطاقة :
    رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

    متميز عبدالرحمن بن أبي بكر - بطل حتى النهاية

    مُساهمة من طرف Admin السبت ديسمبر 24 2011, 00:29


    عبدالرحمن بن أبي بكر - بطل حتى النهاية



    هو صورة مبيّنة للخلق العربي بكل أعماقه، وأبعاده..

    فبينما كان أبوه أول المؤمنين.. والصدّيق الذي آمن برسوله ايمانا ليس من طراز سواه.. وثاني اثنين اذ هما في الغار..كان هو صامدا كالصخر مع دين قومه، وأصنام قريش.!!

    وفي غزوة بدر، خرج مقاتلا مع جيش المشركين..
    وفي غزوة أحد كان كذلك على رأس الرماة الذين جنّدتهم قريش لمعركتها مع المسلمين..

    وقبل أن يلتحم الجيشان، بدأت كالعادة جولة المبارزة..

    ووقف عبدالرحمن يدعو اليه من المسلمين من يبارزه..

    ونهض أبو أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه مندفعا نحوه ليبارزه، ولكن الرسول أمسك به وحال بينه وبين مبارزة ولده.

    **


    ان العربي الأصيل لا يميزه شيء مثلما يميزه ولاؤه المطلق لاقتناعه..

    اذا اقتنع بدين أو فكرة استبعده اقتناعه، ولم يعد للفكاك منه سبيل، اللهمّ الا اذا ازاحه عن مكانه اقتناع جديد يملأ عقله ونفسه بلا زيف، وبلا خداع.

    فعلى الرغم من اجلال عبدالرحمن أباه، وثقته الكاملة برجاحة عقله، وعظمة نفسه وخلقه، فان ولاءه لاقتناعه بقي فارضا سيادته عليه.

    ولم يغره اسلام أبيه باتباعه.

    وهكذا بقي واقفا مكانه، حاملا مسؤولية اقتناعه وعقيدته، يذود عن آلهة قريش، ويقاتل تحت لوائها قتال المؤمنين المستميتين..

    والأقوياء الأصلاء من هذا الطراز، لا يخفى عليهم الحق وان طال المدى..

    فأصالة جوهرهم، ونور وضوحهم، يهديانهم الى الصواب آخر الأمر، ويجمعانهم على الهدى والخير.

    ولقد دقت ساعة الأقدار يوما، معلنة ميلادا جديدا لعبدالرحمن بن أبي بكر الصدّيق..

    لقد أضاءت مصابيح الهدى نفسه فكنست منها كل ما ورثته الجاهلية من ظلام وزيف. ورأى الله الواحد الأحد في كل ما حوله من كائنات وأشياء، وغرست هداية الله ظلها في نفسه وروعه، فاذا هو من المسلمين..!

    ومن فوره نهض مسافرا الى رسول الله، أوّأبا الى دينه الحق.

    وتألق وجه أبي بكر تحت ضوء الغبطة وهو يبصر ولده يبايع رسول الله.

    لقد كان في كفره رجلا.. وها هو ذا يسلم اليوم اسلام الرجال. فلا طمع يدفعه، ولا خوف يسوقه. وانما هو اقتناع رشيج سديد أفاءته عليه هداية الله وتوفيقه.

    وانطلق عبدالرحمن يعوّض ما فاته ببذل أقصى الجهد في سبيل الله، ورسوله والمؤمنين...

    **


    في أيام الرسول عليه صلاة الله وسلامه، وفي أيام خلفائه من بعده، لم يتخلف عبدالرحمن عن غزو، ولم يقعد عن جهاد مشروع..

    ولقد كان له يوم اليمامة بلاء عظيم، وكان لثياته واستبساله دور كبير في كسب المعركة من جيش مسيلمة والمرتدين.. بل انه هو الذي أجهز على حياة محكم بن الطفيل، والذي كان العقل المدبر لمسيلمة، كما كان يحمي بقوته أهم مواطن الحصن الذي تحصّن جيش الردّة بداخله، فلما سقط محكم بضربة من عبدالرحمن، وتشتت الذين حوله، انفتح في الحصن مدخل واسع كبير تدفقت منه مقاتلة المسلمين..

    وازدادت خصال عبدالرحمن في ظل الاسلام مضاء وصقلا..

    فولاؤه لاقتناعه، وتصميمه المطلق على اتباع ما يراه صوابا وحقا، ورفضه المداجاة والمداهنة...

    كل هذا الخلق ظل جوهر شخصيته وجوهر حياته، لم يتخل عنه قط تحت اغراء رغبة، أو تأثير رهبة، حتى في ذلك اليوم الرهيب، يوم قرر معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد بحد الشيف.. فكتب الى مروان عامله بالمدينة كتاب البيعة، وأمره ان يقرأه على المسلمين في المسجد..

    وفعل مروان، ولم يكد يفرغ من قراءته حتى نهض عبدالرحمن بن أبي بكر ليحول الوجوم الذي ساد المسجد الى احتجاج مسموع ومقاومة صادعة فقال:

    " والله ما الاخيار أردتم لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية.. كلما مات هرقل قام هرقل"..!!

    لقد رأى عبدالرحمن ساعتئذ كل الأخطار التي تنتظر الاسلام لو أنجز معاوية أمره هذا، وحوّل الحكم في الاسلام من شورى تختار بها الأمة حاكمها، الى قيصرية أو كسروية تفرض على الأمة بحكم الميلاد والمصادفة قيصرا وراء قيصر..!!

    **


    لم يكد عبدالرحمن يصرخ في وجه مروان بهذه الكلمات القوارع، حتى أيّده فريق من المسلمين على رأسهم الحسين بن علي، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمر..

    ولقد طرأت فيما بعد ظروف قاهرة اضطرت الحسين وابن الزبير وابن عمر رضي الله عنهم الى الصمت تجاه هذه البيعة التي قرر معاوية أن يأخذها بالسيف..

    لكن عبدالرحمن بن أبي بكر ظل يجهر ببطلان هذه البيعة، وبعث اليه معاوية من يحمل مائة ألف درهم، يريد أن يتألفه بها، فألقاها ابن الصدّيق بعيدا وقال لرسول معاوية:

    " ارجع اليه وقل له: ان عبدالرحمن لا يبيع دينه بدنياه"..

    ولما علم بعد ذلك أن معاوية يشدّ رحاله قادما الى المدينة غادرها من فوره الى مكة..

    وأراد الله أن يكفيه فتنة هذا الموقف وسوء عقباه..

    فلم يكد يبلغ مشارف مكة ويستقر بها حتى فاضت الى الله روحه،، وحمله الرجال على الأعناق الى أعالي مكة حيث دفن هناك، تحت ثرى الأرض التي شهدت جاهليته..

    وشهدت اسلامه..!!

    وكان اسلام رجل صادق، حرّ شجاع...

    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة : رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 710
    عارضة الطاقة :
    رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

    متميز عمران بن حصين - شبيه الملائكة

    مُساهمة من طرف Admin السبت ديسمبر 24 2011, 00:30


    عمران بن حصين - شبيه الملائكة



    عام خيبر، أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعا..

    ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول أصبحت يده اليمنى موضع تكريم كبير، فآلى على نفسه ألا يستخدمها الا في كل عمل طيّب، وكريم..

    هذه الظاهرة تنبئ عما يتمتع به صاحبها من حسّ دقيق.
    وعمران بن حصين رضي الله عنه صورة رضيّة من صور الصدق، والزهد، والورع، والتفاني وحب الله وطاعته...

    وان معه من توفيق الله ونعمة الهدى لشيئا كثيرا، ومع ذلك فهو لا يفتأ يبكي، ويبكي، ويقول:

    " يا ليتني كنت رمادا، تذروه الرياح"..!!

    ذلك أن هؤلاء الرجال لم يكونوا يخافون الله بسبب ما يدركون من ذنب، فقلما كانت لهم بعد اسلامهم ذنوب..

    انما كانوا يخافونه ويخشونه بقدر ادراكهم لعظمته وجلاله،وبقدر ادراكهم لحقيقة عجزهم عن شكره وعبادته، فمهما يضرعوا، ويركعوا، ومهما يسجدوا، ويعبدوا..

    ولقد سأل أصحاب الرسول يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:

    " يا رسول الله، مالنا اذا كنا عندك رقت قلوبنا، وزهدنا دنيانا، وكأننا نرى الآخرة رأي العين.. حتى اذا خرجنا من عندك، ولقينا أهلنا، وأولادنا، ودنيانا، أنكرنا أنفسنا..؟؟"

    فأجابهم عليه السلام:

    " والذي نفسي بيده، لو تدومون على حالكم عندي، لصافحتكم الملائكة عيانا، ولكن ساعة.. وساعة.

    وسمع عمران بن حصين هذا الحديث. فاشتعلت أشواقه.. وكأنما آلى على نفسه ألا يقعد دون تلك الغاية الجليلة ولو كلفته حياته، وكأنما لم تقنع همّته بأن يحيا حياته ساعة.. وساعة.. فأراد أن تكون كلها ساعة واحدة موصولة النجوى والتبتل لله رب العالمين..!!

    **


    وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أرسله الخليفة الى البصرة ليفقه أهلها ويعلمهم.. وفي البصرة حطّ رحاله، وأقبل عليه أهلها مذ عرفوه يتبركون به، ويستضيؤن بتقواه.

    قال الحسن البصري، وابن سيرين:

    " ما قدم البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بفضل عمران بن حصين"

    كان عمران يرفض أن يشغله عن الله وعبادته شاغل، استغرق في العبادة، واستوعبته العبادة حتى صار كأنه لا ينتمي الى عالم الدنيا التي يعيش فوق أرضها وبين ناسها..

    أجل..

    صار كأنه ملك يحيا بين الملائكة، يحادثونه ويحادثهم.. ويصافحونه ويصافحهم..

    **


    ولما وقع النزاع الكبير بين المسلمين، بين فريق علي وفريق معاوية، لم يقف عمران موقف الحيدة وحسب، بل راح يرفع صوته بين الناس داعيا ايّاهم أن يكفوا عن الاشتراك في تلك الحرب، حاضنا قضية الاسلام خير محتضن.. وراح يقول للناس:

    " لأن أرعى أعنزا حضنيات في رأس جبل حتى يدركني الموت، أحبّ اليّ من أن أرمي في أحد الفريقين بسهم، أخطأ أم أصاب"..

    وكان يوصي من يلقاه من المسلمين قائلا:

    " الزم مسجدك..

    فان دخل عليك، فالزم بيتك..

    فان دخل عليك بيتك من يريد نفسك ومالك فقاتله"..

    **


    وحقق ايمان عمران بن حصين أعظم نجاح، حين أصابه مرض موجع لبث معه ثلاثين عاما، ما ضجر منه ولا قال: أفّ..

    بل كان مثابرا على عبادته قائما، وقاعدا وراقدا..

    وكان اذا هوّن عليه اخوانه وعوّاده أمر علته بكلمات مشجعة، ابتسم لها وقال:

    " ان أحبّ الأشياء الى نفسي، أحبها الى الله"..!!

    وكانت وصيته لأهله واخوانه حين أدركه الموت:

    " اذا رجعتم من دفني، فانحروا وأطعموا"..


    أجل لينحروا ويطعموا، فموت مؤمن مثل عمران بن حصين ليس موتا، انما هو حف زفاف عظيم، ومجيد، تزف فيه روح عالية راضية الى جنّة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين...
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة : رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 710
    عارضة الطاقة :
    رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

    متميز عبدالله بن عباس - حبر هذه الأمة

    مُساهمة من طرف Admin السبت ديسمبر 24 2011, 00:30


    عبدالله بن عباس - حبر هذه الأمة



    يشبه ابن عباس، عبدالله بن الزبير في أنه أدرك الرسول وعاصره وهو غلام، ومات الرسول قبل أن يبلغ ابن عباس سنّ الرجولة.

    لكنه هو الآخر تلقى في حداثته كل خامات الرجولة، ومبادئ حياته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤثره، ويزكيه، ويعلّمه الحكمة الخالصة.

    وبقوة ايمانه، وقوة خلقه، وغزارة علمه، اقتعد ابن عباس رضي الله عنه مكانا عاليا بين الرجال حول الرسول.

    **


    هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عم الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ولقبه الحبر.. حبر هذه الأمة، هيأه لهذا اللقب، ولهذه المنزلة استنارة عقله وذكاء قلبه، واتساع معارفه.

    لقد عرف ابن عباس طريق حياته في أوليات أيامه وازداد بها معرفة عندما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يدنيه منه وهو طفل ويربّت على كتفه وهو يقول:

    " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".

    ثم توالت المناسبات والفرص التي يكرر فيها الرسول هذا الدعاء ذاته لابن عمه عبدالله بن عباس.. وآنئذ أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم، والمعرفة.

    وكان استعداده العقلي يدفعه في هذا الطريق دفعا قويا.


    فعلى الرغم من أنه لم يكن قد جاوز الثالثة عشرة من عمره يوم مات رسول الله، فانه لم يصنع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهدمجالس الرسول ويحفظ عنه ما يقول..

    وبعد ذهاب الرسول الى الرفيق الأعلى حرص ابن عباس على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقين ما فاته سماعه وتعلمه من الرسول نفسه..

    هنالك، جعل من نفسه علامة استفهام دائمة.. فلا يسمع أن فلانا يعرف حكمة، أو يحفظ حديثا، الا سارع اليه وتعلم منه..

    وكان عقله المضيء الطموح يدفعه لفحص كل ما يسمع.. فهو لا يغنى بجمع المعرفة فحسب، بل ويغنى مع جمعها بفحصها وفحص مصادرها..

    يقول عن نفسه:

    " ان كنت لأسأل عن الأمر الواحد، ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".

    ويعطينا صورة لحرصه على ادراكه الحقيقة والمعرفة فيقول:

    " لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لفتى من الأنصار:

    هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله، فانهم اليوم كثير.

    فقال: يا عجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يفتقرون اليك، وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى..؟؟

    فترك ذلك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله.. فان كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي اليه وهو قائل في الظهيرة، فأتوسّد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، حتى ينتهي من مقيله، ويخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك..؟؟ هلا أرسلت اليّ فآتيك..؟؟ فأقول لا، أنت أحق بأن أسعى اليك، فأسأله عنه الحديث وأتعلم منه"..!!

    هكذا راح فتانا العظيم يسأل، ويسأل، ويسأل.. ثم يفحص الاجابة مع نفسه، ويناقشها بعقل جريء.

    وهو في كل يوم، تنمو معارفه، وتنمو حكمته، حتى توفرت له في شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم، وحصافتهم، وحتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحرص على مشورته في كل أمر كبير.. وكان يلقبه بفتى الكهول..!!

    سئل ابن عباس يوما:" أنّى أصبت هذا العلم"..؟

    فأجاب:

    " بلسام سؤل..

    وقلب عقول"..

    فبلسانه المتسائل دوما، وبعقله الفاحص أبدا، ثم بتواضعه ودماثة خلقه، صار ابن عباس" حبر هذه الأمة..

    ويصفه سعد بن أبي وقاص بهذه الكلمات:

    " ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا أكبر لبّا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس..

    ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس، ولا يجاوز عمر قوله"..

    وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال:

    " ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس..

    ولا رأيت أحدا، أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه..

    ولا أفقه في رأي منه..

    ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا تفسير للقرآن، ولا بحساب وفريضة منه..

    ولقد كان يجلس يوما للفقه.. ويوما للتأويل.. يوما للمغازي.. ويوما للشعر.. ويوم لأيام العرب وأخبارها..

    وما رأيت عالما جلس اليه الا خضع له، ولا سائلا الا وجد عنده علما"..!!

    **


    ووصفه مسلم من أهل البصرة، وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها للامام عليّ ابن أبي طالب، فقال:

    " انه آخذ بثلاث، تارك لثلاث..

    آخذ بقلوب الرجال اذا حدّث..

    وبحسن الاستماع اذا حدّث..

    وبأيسر الأمرين اذا خولف..

    وتارك المراء..

    ومصادقة اللئام..

    وما يعتذر منه"..!!

    **


    وكان تنوّع ثقافته، وشمول معرفته ما يبهر الألباب.. فهو الحبر الحاذق الفطن في كل علم.. في تفسير القرآن وتأويله وفي الفقه.. وفي التاريخ.. وفي لغة العرب وآدابهم، ومن ثمّ فقد كان مقصد الباحثين عن المعرفة، يأتيه الناس أفواجا من أقطار الاسلام، ليسمعوا منه، وليتفقهوا عليه..

    حدّث أحد أصحابه ومعاصريه فقال:

    " لقد رأيت من ابن عباس مجلسا، لو أن جميع قريش فخرت به، لكان لها به الفخر..

    رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب..

    فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي: ضع لي وضوءا، فتوضأ وجلس وقال: أخرج اليهم، فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله..فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سالوا عن شيء الا اخبرهم وزاد..

    ثم قال لهم: اخوانكم.. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم.

    ثم قال لي: أخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام..

    فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوا عن شيء الا أخبرهم وزادهم..

    ثم قال: اخوانكم.. فخرجوا..

    ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض، فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم..

    ثم قال لي: ادع من يريد أن يسال عن العربية، والشعر..

    فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم"!!


    وكان ابن عباس يمتلك الى جانب ذاكرته القوية، بل الخارقة، ذكاء نافذا، وفطنة بالغة..

    كانت حجته كضوء الشمس ألقا، ووضوحا، وبهجة.. وهو في حواره ومنطقه، لا يترك خصمه مفعما بالاقتناع وحسب، بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار..

    ومع غزارة علمه، ونفاذ حجته، لم يكن يرى في الحوار والمناقشة معركة ذكاء، يزهو فيها بعلمه، ثم بانتصاره على خصمه.. بل كان يراها سبيلا قويما لرؤية الصواب ومعرفته..

    ولطالما روّع الخوارج بمنطقه الصارم العادل..

    بعث به الامام عليّ كرّم الله وجهه ذات يوم الى طائفة كبيرة منهم فدار بينه وبينهم حوار رائع وجّه فيه الحديث وساق الحجة بشكل يبهر الألباب..

    ومن ذلك الحوار الطويل نكتفي بهذه الفقرة..

    سألهم ابن عباس:

    " ماذا تنقمون من عليّ..؟"

    قالوا:

    " ننتقم منه ثلاثا:

    أولاهنّ: أنه حكّم الرجال في دين الله، والله يقول ان الحكم الا لله..

    والثانية: أنه قاتل، ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارا، فقد حلّت أموالهم، وان كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم..!!

    والثالثة: رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، استجابة لأعدائه، فان لم يكن امير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.."

    وأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال:

    " أما قولكم: انه حكّم الرجال في دين الله، فأيّ بأس..؟

    ان الله يقول: يا أيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم..

    فنبؤني بالله: أتحكيم الرجال في حقن دماء المسلمين أحق وأولى، أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم..؟؟!!

    وتلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساخر والحاسم.. واستأنف حبر الأمة حديثه:

    " وأما قولكم: انه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سبيا، ويأخذ أسلابها غنائم..؟؟

    وهنا كست وجوههم صفرة الخحل، وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم..

    وانتقل ابن عباس الى الثالثة:

    " وأما قولكم: انه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله الرسول يوم الحديبية، اذ راح يملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش، فقال للكاتب: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك..

    فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله.. فقال لهم الرسول: والله اني لرسول الله وان كذبتم.. ثم قال لكاتب الصحيفة: أكتب ما يشاءون: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله"..!!

    واستمرّ الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز.. وما كاد ينتهي النقاش بينهم حتى نهض منهم عشرون ألفا، معلنين اقتناعهم، ومعلنين خروجهم من خصومة الامام عليّ..!!

    **


    ولم يكن ابن عباس يمتلك هذه الثروة الكبرى من العلم فحسب. بل كان يمتلك معها ثروة أكبر، من أخلاق العلم وأخلاق العلماء.

    فهو في جوده وسخائه امام وعلم..

    انه ليفيض على الناس من ماله.. بنفس السماح الذي يفيض به عليهم من علمه..!!

    ولقد كان معاصروه يتحدثون فيقولون:

    " ما رأينا بيتا أكثر طعاما، ولا شرابا، ولا فاكهة، ولا علما من بيت ابن عباس"..!!

    وهو طاهر القلب، نقيّ النفس، لا يحمل لأحد ضغنا ولا غلا.

    وهوايته التي لا يشبع منها، هي تمنّيه الخير لكل من يعرف ومن لا يعرف من الناس..

    يقول عن نفسه:

    " اني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم..

    واني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو له.. ومالي عنده قضيّة..!!

    واني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به، ومالي بتلك الأرض سائمة..!!"

    **


    وهو عابد قانت أوّاب.. يقوم من الليل، ويصوم من الأيام، ولا تخطئ العين مجرى الدموع تحت خديّه، اذ كان كثير البكاء كلما صلى.. وكلما قرأ القرآن..

    فاذا بلغ في قراءته بعض آيات الزجر والوعيد، وذكر الموت، والبعث علا نشيجه ونحيبه.

    **


    وهو الى جانب هذا شجاع، أمين، حصيف.. ولقد كان له في الخلاف بين عليّ ومعاوية آراء تدلّ على امتداد فطنته، وسعة حيلته.

    وهو يؤثر السلام على الحرب.. والرفق على العنف.. والمنطق على القسر..

    عندما همّ الحسين رضي الله عنه بالخروج الى العراق ليقاتل زيادا، ويزيد، تعلق ابن عباس به واستمات في محاولة منعه.. فلما بلغه فيما بعد نبأ استشهاده، أقضّه الحزن عليه، ولزم داره.

    وفي كل خلاف ينشب بين مسلم ومسلم، لم تكن تجد ابن عباس الا حاملا راية السلم، والتفاهم واللين..

    صحيح أنه خاض المعركة مع الامام عليّ ضد معاوية. ولكنه فعل ذلك لأن المعركة في بدايتها كانت تمثل ردعا لازما لحركة انشقاق رهيبة، تهدد وحدة الدين ووحدة المسلمين.

    **


    وعاش ابن عباس يمأ دنباه علما وحكمة، وينشر بين الناس عبيره وتقواه..

    وفي عامه الحادي والسبعين، دعي للقاء ربه العظيم وشهدت مدينة الطائف مشهدا حافلا لمؤمن يزف الى الجنان.

    وبينما كان جثمانه يأخذ مستقره الآمن في قبره، كانت جنبات الأفق تهتز بأصداء وعد الله الحق:

    ( يا أيتها النفس المطمئنة

    ارجعي الى ربك راضية مرضية

    فادخلي في عبادي

    وادخلي جنتي)
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة : رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 710
    عارضة الطاقة :
    رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

    متميز أبو موسى الأشعري - الاخلاص.. وليكن ما يكون

    مُساهمة من طرف Admin السبت ديسمبر 24 2011, 00:31


    أبو موسى الأشعري - الاخلاص.. وليكن ما يكون


    عندما بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى البصرة، ليكون أميرها وواليها، جمع أهلها وقام فيهم خطيبا فقال:

    " ان أمير المؤمنين عمر بعثني اليكم، أعلمكم كتار بكم، وسنة نبيكم، وأنظف لكم طرقكم"..!!

    وغشي الانس من الدهش والعجب ما غشيهم، فانهم ليفهمون كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم في دينهم من واجبات الحاكم والأمير، أما أن يكون من واجباته تنظيف طرقاتهم، فذاك شيء جديد عليهم بل مثير وعجيب..

    فمن هذا الوالي الذي قال عنه الحسن رضي الله عنه:

    " ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه"..؟

    **


    انه عبدالله بن قيس المكنّى بـ أبي موسى الأشعري..

    غادر اليمن بلده ووطنه الى مكة فور سماعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد ويدعو الى الله على بصيرة، ويأمر بمكارم الأخلاق..

    وفي مكة، جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..

    وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله، ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..

    وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله، ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثر فراغه من فتح خيبر..

    ووافق قدومه قدوم جعفر بن أبي طالب مقبلا مع أصحابه من الحبشة فأسهم الرسول لهم جميعا..

    وفي هذه المرّة لم يأت أبو موسى الأشعري وحده، بل جاء معه بضعة وخمسون رجلا من أهل اليمن الذين لقنهم الاسلام، وأخوان شقيقان له، هم، أبو رهم، وأبو بردة..

    وسمّى الرسول هذا الوفد.. بل سمّى قومهم جميعا بالأشعريين..

    ونعتهم الرسول بأنهم أرق الناس أفئدة..

    وكثيرا ما كان يضرب المثل الأعلى لأصحابه، فيقول فيهم وعنهم:

    " ان الأشغريين اذا أرملوا في غزو، أو قلّ في أيديهم الطعام، جمعوا ما عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموا بالسويّة.

    " فهم مني.. وانا منهم"..!!

    ومن ذلك اليوم أخذ أبو موسى مكانه الدائم والعالي بين المسلمين والمؤمنين، الذين قدّر لهم أن يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذته، وأن يكونوا حملة الاسلام الى الدنيا في كل عصورها ودهورها..

    **


    أبو موسى مزيج عجيب من صفات عظيمة..

    فهو مقاتل جسور، ومناضل صلب اذا اضطر لقتال..

    وهو مسالم طيب، وديع الى أقصى غايات الطيبة والوداعة..!!

    وهو فقيه، حصيف، ذكي يجيد تصويب فهمه الى مغاليق الأمور، ويتألق في الافتاء والقضاء، حتى قيل:

    " قضاة هذه الأمة أربعة:

    " عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت"..!!

    ثم هو مع هذا، صاحب فطرة بريئة، من خدعه في الله، انخدع له..!!

    وهو عظيم الولاء والمسؤولية..

    وكبير الثقة بالناس..

    لو أردنا أن نختار من واقع حياته شعارا، لكانت هذه العبارة:

    " الاخلاص وليكن ما يكون"..

    في مواطن الجهاد، كان الأشعري يحمل مسؤولياته في استبسال مجيد مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلمي يقول عنه:

    " سيّد الفوارس، أبو موسى"..!!

    وانه ليرينا صورة من حياته كمقاتل فيقول:

    " خرجنا مع رسول الله في غزاة، نقبت فيها أقدامنا، ونقّبت قدماي، وتساقطت أظفاري، حتى لففنا أقدامنا بالخرق"..!!

    وما كانت طيبته وسلامة طويته ليغريا به عدوّا في قتال..

    فهو في موطن كهذا يرى الأمور في وضوح كامل، ويحسمها في عزم أكيد..



    ولقد حدث والمسلمون يفتحون بلاد فارس أن هبط الأشعري يجيشه على أهل أصبهان الذين صالحوه على الجزية فصالحهم..

    بيد أنهم في صلحهم ذاك لم يكونوا صادقين.. انما ارادوا أن يهيئوا لأنفسهم الاعداد لضربة غادرة..

    ولكن فطنة أبي موسى التي لا تغيب في مواطن الحاجة اليها كانت تستشف أمر أولئك وما يبيّتون.. فلما همّوا بضربتهم لم يؤخذ القائد على غرّة، وهنالك بارزهم القتال فلم ينتصف النهار حتى كان قد انتصر انتصارا باهرا..!!

    **


    وفي المعارك التي خاضها المسلمون ضدّ امبراطورية الفرس، كان لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، بلاؤه العظيم وجهاده الكريم..

    وفي موقعة تستر بالذات، حيث انسحب الهرزمان بجيشه اليها وتحصّن بها، وجمع فيها جيوشا هائلة، كان أبو موسى بطل هذه الموقعة..

    ولقد أمدّه أمير المؤمنين عمر يومئذ بأعداد هائلة من المسلمين، على رأسهم عمار بن ياسر، والبراء بن مالك، وأنس بن مالك، ومجزأة البكري وسلمة بن رجاء..

    واتقى الجيشان..

    جيش المسلمين بقيادة أبو موسى.. وجيش الفرس بقيادة الهرزمان في معركة من أشد المعارك ضراوة وبأسا..

    وانسحب الفرس الى داخل مدينة تستر المحصنة..

    وحاصرها المسلمون أياما طويلة، حتى أعمل أبو موسى عقله وحيلته..

    وأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي، أغراه أبو موسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة، أمام الطليعة التي اختارها لهذه المهمة.

    ولم تكد الأبواب تفتح، وجنود الطليعة يقتحمون الحصن حتى انقض أبو موسى بجيشه انقضاضا مدمدما.

    واستولى على المعقل الخطير في ساعات. واستسلم قادة الفرس، حيث بعث بهم أبو موسى الى المدينة ليرى أمير المؤمنين فيهم رأيه..

    **


    على أن هذا المقاتل ذا المراس الشديد، لم يكن يغادر أرض المعركة حتى يتحوّل الى أوّاب، بكّاء وديع كالعصفور...

    يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من سمعه.. حتى لقد قال عنه الرسول:

    " لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود"..!

    كان عمر رضي الله عنه كلما رآه دعاه ليتلو عليه من كتاب الله.. قائلا له:

    " شوّقنا الى ربنا يا أبا موسى"..

    كذلك لم يكن يشترك في قتال الا أن يكون ضد جيوش مشركة، جيوش تقاوم الدين وتريد أن تطفئ نور الله..

    أما حين يكون القتال بين مسلم ومسلم، فانه يهرب منه ولا يكون له دور أبدا.

    ولقد كان موقفه هذا واضحا في نزاع عليّ ومعاوية، وفي الحرب التي استعر بين المسلمين يومئذ أوراها.

    ولعل هذه النقطة من الحديث تصلنا بأكثر مواقف حياته شهرة، وهو موقفه من التحكيم بين الامام علي ومعاوية.

    هذا الموقف الذي كثيرا ما يؤخذ آية وشاهدا على افراط أبي موسى في الطيبة الى حد يسهل خداعه.

    بيد أن الموقف كما سنراه، وبرغم ما عسى أن يكون فيه تسرّع أو خطأ، انما يكشف عن عطمة هذا الصحابي الجليل، عظمة نفسه، وعظمة ايمانه بالحق، وبالناس، ان راي أبي موسى في قضية التحكيم يتلخص في أنه وقد رأى المسلمين يقتل بعضهم بعضا، كل فريق يتعصب لامام وحاكم.. كما رأى الموقف بين المقاتلين قد بلغ في تأزمه واستحالة تصفيته المدى الذي يضع مصير الأمة المسلمة كلها على حافة الهاوية.

    نقول: ان رأيه وقد بلغت الحال من السوء هذا المبلغ، كان يتلخص في تغيير الموقف كله والبدء من جديد.

    ان الحرب الأهلية القائمة يوم ذاك انما تدور بين طائفتين من المسلمين تتنازعان حول شخص الحاكم، فليتنازل الامام علي عن الخلافة مؤقتا، وليتنازل عنها معاوية، على أن يرد الأمر كله من جديد الى المسلمين يختارون بطريق الشورى الخليفة الذي يريدون.

    هكذا ناقش أبو موسى القضية، وهكذا كان حله.

    صحيح أن عليّا بويع بالخلافة بيعة صحيحة.

    وصحيح أن كل تمرد غير مشروع لا ينبغي أن يمكّن من غرضه في اسقاط الحق المشروع. بيد أن الأمور في النزاع بين الامام ومعاوية وبين أهل العراق وأهل الشام، في رأي أبي موسى، قد بلغت المدى الذي يفرض نوعا جديدا من التفكير والحلول.. فعصيان معاوية، لم يعد مجرّد عصيان.. وتمرّد أهل الشام لم يعد مجرد تمرد.. والخلاف كله يعود مجرد خلاف في الرأي ولا في الاختيار..

    بل ان ذلك كله تطوّر الى حرب أهلية ضارية ذهب ضحيتها آلاف القتلى من الفريقين.. ولا تزال تهدد الاسلام والمسلمين بأسوأ العواقب.

    فازاحة أسباب النزاع والحرب، وتنحية أطرافه، مثّلا في تفكير أبي موسى نقطة البدء في طريق الخلاص..

    ولقد كان من رأي الامام علي حينما قبل مبدأ التحكيم، أن يمثل جبهته في التحكيم عبدالله بن عباس، أو غيره من الصحابة. لكن فريقا كبيرا من ذوي البأس في جماعته وجيشه فرضا عليه أبا موسى الأشعري فرضا.

    وكانت حجتهم في اختيار أبا موسى أنه لم يشترك قط في النزاع بين علي ومعاوية، بل اعتزل كلا الفريقين بعد أن يئس من حملهما على التفاهم والصلح ونبذ القتال. فهو بهذه المثابة أحق الناس بالتحكيم..

    ولم يكن في دين أبي موسى، ولا في اخلاصه وصدقه ما يريب الامام.. لكنه كان يدرك موايا الجانب الآخر ويعرف مدى اعتمادهم على المناورة والخدعة. وأبو موسى برغم فقهه وعلمه يكره الخداع والمناورة، ويحب أن يتعامل مع الناس بصدقه لا بذكائه. ومن ثم خشي الامام علي أن ينخدع أبو موسى للآخرين، ويتحول التحكيم الى مناورة من جانب واحد، تزيد الأمور سوءا...

    **


    بدأ التحيكم بين الفريقين..

    أبو موسى الأشعري يمثل جبهة الامام علي..

    وعمرو بن العاص، يمثل جانب معاوية.

    والحق أن عمرو بن العاص اعتمد على ذكائه الحاد وحيلته الواسعة في أخذ الراية لمعاوية.

    ولقد بدأ الاجتماع بين الرجلين، الأشعري، وعمرو باقتراح طرحه أبو موسى وهو أن يتفق الحكمان على ترشيح عبدالله بن عمر بل وعلى اعلانه خليفة للمسلمين، وذلك لما كان ينعم به عبدالله بن عمر من اجماع رائع على حبه وتوقيره واجلاله.

    ورأى عمرو بن العاص في هذا الاتجاه من أبي موسى فرصة هائلة فانتهزها..

    ان مغزى اقتراح أبي موسى، أنه لم يعد مرتبطا بالطرف الذي يمثله وهو الامام علي..

    ومعناه أيضا أنه مستعد لاسناد الخلافة الى آخرين من أصحاب الرسول بدليل أنه اقترح عبدالله بن عم..

    وهكذا عثر عمرو بدهائه على مدخل فسيح الى غايته، فراح يقترح معاوية.. ثم اقترح ابنه عبدالله بن عمرو وكان ذا مكانة عظيمة بين أصحاب رسول الله.

    ولك يغب ذكاء أبي موسى أمام دهاء عمرو.. فانه لم يكد يرى عمرا يتخذ مبدأ الترشيح قاعدة الترشيح للحديث والتحكيم حتى لوى الزمام الى وجهة أسلم، فجابه عمرا بأن اختيار الخليفة حق للمسلمين جميعا، وقد جعل الله أمرهم شورى بينهم، فيجب أن يترك الأمر لهم وحدهم وجميعهم لهم الحق في هذا الاختيار..

    وسوف نرى كيف استغل عمرو هذا المبدأ الجليا لصالح معاوية..

    ولكن قبل ذلك لنقرأ نص الحوار التاريخي الذي دار بين أبي موسى وعمرو بن العاص في بدء اجتماعهما:

    أبو موسى: يا عمرو، هل لك في صلاح الأمة ورضا الله..؟

    عمرو: وما هو..؟

    أبو موسى: نولي عبدالله بن عمر، فانه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحرب.

    عمرو: وأين أنت من معاوية..؟

    أبو موسى: ما معاوية بموضع لها ولا يستحقها.

    عمرو: ألست تعلم أن عثمان قتل مظلموا..؟

    أبو موسى: بلى..

    عمرو: فان معاوية وليّ دم عثمان، وبيته في قريش ما قد علمت. فان قال الناس لم أولي الأمر ولست سابقة؟ فان لك في ذلك عذرا. تقول: اني وجدته ولي عثمان، والله تعالى يقول: ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا).. وهو مع هذا، اخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد أصحابه..

    أبو موسى: اتق الله يا عمرو..

    أمّا ما ذكرت من شرف معاوية، فلو كانت الخلافة تستحق بالشرف لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصبّاح فانه من أبناء ملوك اليمن التباعية الذين ملكوا شرق الأرض ومغربها.. ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن أبي طالب..؟؟

    وأما قولك: ان معاوية ولي عثمان، فأولى منه عمرو بن عثمان..

    ولكن ان طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره، بتوليتنا ابنه عبدالله الحبر..

    عمرو: فما يمنعك من ابني عبدالله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته..؟

    أبو موسى: ان ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا، فهلم نجعلها للطيّب بن الطيّب.. عبدالله بن عمر..

    عمرو: يا أبا موسى، انه لا يصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما، ويطعم بالآخر..!!

    أبو موسى: ويحك يا عمرو.. ان المسلمين قد أسندوا الينا الأمر بعد أن تقارعوا السيوف، وتشاكوا بالرماح، فلا نردهم في فتنة.

    عمرو: فماذا ترى..؟أبو موسى: أرى أن نخلع الرجلين، عليّا ومعاوية، ثم نجعلها شورى بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من يحبوا..

    عمرو: رضيت بهذا الرأي فان صلاح النفوس فيه..

    ان هذا الحوار يغير تماما وجه الصورة التي تعوّدنا أن نرى بها أبا موسى الأشعري كلما ذكرنا واقعة التحكيم هذه..

    ان أبا موسى كان أبعد ما يكون عن الغفلة..

    بل انه في حواره هذا كان ذكاؤه أكثر حركة من ذكاء عمرو بن العاص المشهور بالذكاء والدهاء..

    فعندما أراد عمرو أن يجرّع أبا موسى خلافة معاوية بحجة حسبه في قريش، وولايته لدم عثمان، جاء رد أبي موسى حاسما لامعا كحد السيف..

    اذا كانت الخلافة بالشرف، فأبرهة بن الصباح سليل الملوك أولى بها من معاوية..

    واذا كانت بدم عثمان والدفاع عن حقه، فابن عثمان رضي الله عنه، اولى بهذه الولاية من معاوية..

    **


    لقد سارت قضية التحيكم بعد هذا الحوار في طريق يتحمّل مسؤليتها عمرو بن العاص وحده..

    فقد أبرأ أبو موسى ذمته بردّ الأمر الى الأمة، تقول كلمتها وتخنار خليفتها..

    ووافق عمرو والتزم بهذا الرأي..

    ولم يكن يخطر ببال أبي موسى أن عمرو في هذا الموقف الذي يهدد الاسلام والمسلمين بشر بكارثة، سيلجأ الى المناورة، هما يكن اقتناعه بمعاوية..

    ولقد حذره ابن عباس حين رجع اليهم يخبرهم بما تم الاتفاق عليه..

    حذره من مناورات عمرو وقال له:

    " أخشى والله أن يكون عمرو قد خدعك، فان كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم، ثم تكلم أنت بعده"..!

    لكن أبا موسى كان يرى الموقف أكبر وأجل من أن يناور فيه عمرو، ومن ثم لم يخالجه أي ريب أوشك في التزام عمرو بما اتفقنا عليه..

    واجتمعا في اليوم التالي.. أبو موسى ممثلا لجبهة الامام علي، وعمرو بن العاص ممثلا لجبهة معاوية..

    ودعا أبو موسى عمرا ليتحدث.. فأبى عمرو وقال له:


    " ما كنت لأتقدمك وأنت أكثر مني فضلا.. وأقدم هجرة.. وأكبر سنا"..!!

    وتقد أبو موسى واستقبل الحشود الرابضة من كلا الفريقين.

    وقال:

    " أيها الناس.. انا قد نظنا فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة، ويصلح أمرها، فلم نر شيئا أبلغ من خلع الرجلين علي ومعاوية، وجعلها شورى يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها..

    واني قد خلعت عليا ومعاوية..

    فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم"...

    وجاء دور عمرو بن العاص ليعلن خلع معاوية، كما خلع أبو موسى عليا، تنفيذا للاتفاق المبرم بالأمس...

    وصعد عمرو المنبر، وقال:

    " أيها الناس، ان أبا موسى قد قال كما سمعتم وخلع صاحبه،

    ألا واني قد خلعت صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فانه ولي أمير المؤمنين عثمان والمطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه.."!!

    ولم يحتمل أبو موسى وقع المفاجأة، فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة..

    وعاد من جديد الى عزلته، وأغذّ خطاه الى مكة.. الى جوار البيت الحرام، يقضي هناك ما بقي له من عمر وأيام..

    كان أبو موسى رضي الله عنه موضع ثقة الرسول وحبه، وموضع ثقة خلفائه واصحابه وحبهم...

    ففيحياته عليه الصلاة والسلام ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن..

    وبعد وفاة الرسول عاد الى المدينة ليجمل مسؤولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الاسلام ضد فارس والروم..

    وفي عهد عمر ولاه أمير المؤمنين البصرة..

    وولاه الخليفة عثمان الكوفة..

    **


    وكان من أهل القرآن، حفظا، وفقها، وعملا..

    ومن كلماته المضيئة عن القرآن:

    " اتبعوا القرآن..

    ولا تطمعوا في أن يتبعكم القرآن"..!!

    وكان من اهل العبادة المثابرين..

    وفي الأيام القائظة التي يكاد حرّها يزهق الأنفاس، كنت تجد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها ويقول:

    " لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة"..

    **


    وذات يوم رطيب جاءه أجله..

    وكست محيّاه اشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه.ز

    والكلمات التي كان يرددها دائما طوال حياته المؤمنة، راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها.ز

    تلك هي:

    " اللهم أنت السلام..ومنك السلام"...
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة : رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 710
    عارضة الطاقة :
    رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100رجال حول الرسول , اعلام الصحابة - صفحة 3 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

    متميز سالم مولى أبي حذيفة - بل نعم حامل القرآن

    مُساهمة من طرف Admin السبت ديسمبر 24 2011, 00:32



    سالم مولى أبي حذيفة - بل نعم حامل القرآن

    أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوما، فقال:

    " خذوا القرآن من أربعة:

    عبدالله بن مسعود..

    وسالم مولى أبي حذيفة..

    وأبيّ بن كعب..

    ومعاذ بن جبل.."

    ولقد التقينا من قبل بابن مسعود، وأبيّ،ومعاذ..

    فمن هذا الصحابي الرابع الذي جعله الرسول حجّة في تعليم القرآن ومرجعا..؟؟
    انه سالم، مولى أبي حذيفة..

    كان عبدا رقيقا، رفع الاسلام من شأنه حتى جعل منه ابنا لواحد من كبار المسلمين كان قبل اسلامه شريفا من أشراف قريش، وزعيما من زعمائها..

    ولما أبطل الاسلام عادة التبني، صار أخا ورفيقا، ومولى للذي كان يتبناه وهو الصحابي الجليل: أبو حذيفة بن عتبة..

    وبفضل من الله ونعمة على سالم بلغ بين المسلمين شأوا رفيعا وعاليا، أهّلته له فضائل روحه، وسلوكه وتقواه.. وعرف الصحابي الجليل بهذه التسمية: سالم مولى أبي حذيفة.

    ذلك أنه كان رقيقا وأعتق..

    وآمن باله ايمانا مبكرا..

    وأخذ مكانه بين السابقين الأولين..

    وكان حذيفة بن عتبة، قد باكر هو الآخر وسارع الى الاسلام تاركا أباه عتبة بن ربيعة يجتر مغايظه وهموهه التي عكّرت صفو حياته، بسبب اسلام ابنه الذي كان وجيها في قومه، وكان أبوه يعدّه للزعامة في قريش..

    وتبنى أبو حذيفة سالما بعد عتقه، وصار يدعى بسالم بن أبي حذيفة..

    وراح الاثنان يعبدان ربهما في اخبات، وخشوع.. ويصبران أعظم الصبر على أذى قريش وكيدها..

    وذات يوم نزلت آية القرآن التي تبطل عادة التبني..

    وعاد كل متبني ليحمل اسم أبيه الحقيقي الذي ولده وأنجبه..


    فـ زيد بن حارثة مثل، الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام قد تبناه، وعرف بين المسلمين بزيد بن محمد، عاد يحمل اسم أبيه حارثة فصار زيد بن جارثة ولكنّ سالما لم يكن يعرف له أب، فوالى أبا حذيفة، وصار يدعى سالم مولى أبي حذيفة..

    ولعل الاسلام حين أبطل عادة التبني، انما أراد أن يقول للمسلمين لا تلتمسوا رحما، ولا قربى، ولا صلة توكدون بها اخاءكم، أكبر ولا أقوى من الاسلام نفسه.. والعقيدة التي يجعلكم بها اخوانا..!!

    ولقد فهم المسلمون الأوائل هذا جيدا..

    فلم يكن شيء أحب الى أحدهم بعد الله ورسوله، من اخزوانهم في الله وفي الاسلام..

    ولقد رأينا كيف استقبل الأنصار اخوانهم المهاجرين، فشاطروهم أموالهم، ومساكنهم، وكل ما يملكون..!!

    وهذا هو الذي رأينا يحدث بين أبي حذيفة الشريف في قريش، مع سالم الذي كان عبدا رقسقا، لا يعرف أبوه..

    لقد ظلا الى آخر لحظة من حياتهما أكثر من اخوين شقيقين حتى عند الموت ماتا معا.. الروح مع الروح.. والجسد الى جوار الجسد..!!

    تلك عظمة الاسلام الفريدة..

    بل تلك واحدة من عظائمه ومزاياه..!!

    **


    لقد آمن سالم ايمان الصادقين..

    وسلك طريقه الى الله سلوك الأبرار المتقين..

    فلم يعد لحسبه، ولا لموضعه من المجتمع أي اعتبار..

    لقد ارتفع بتقواه واخلاصه الى أعلى مراتب المجتمع الجديد الذي جاء الاسلام يقيمه وينهضه على أساس جديد عادل عظيم...

    أساس تلخصه الآية الجليلة:

    " ان أكرمكم عند الله أتقاكم"..!!

    والحديث الشريف:

    " ليس لعربي على عجمي فضل الا بالتقوى"..

    و" ليس لابن البضاء على ابن السوداء فضل الا بالتقوى"..

    **


    في هذا المجتمع الجديد الراشد، وجد أبو حذيفة شرفا لنفسه أن يوالي من كان بالأمس عبدا..

    بل ووجد شرفا لأسرته، أن يزوج سالما ابنه أخيه فاطمة بنت الوليد بنت عتبة..!!

    وفي هذا المجتمع الجديد، والرشيد، الذي هدّم الطبقية الظالمة، وأبطل التمايز الكاذب، وجد سالم بسبب صدقه، وايمانه، وبلائه، وجد نفسه في الصف الأول دائما..!!

    أجل.. لقد كان امام للمهاجرين من مكة الى المدينة طوال صلاتهم في مسجد قباء..

    وكان حجة في كتاب الله، حتى أمر النبي المسلمين أن يتعلموا منه..!!

    وكان معه من الخير والتفوق ما جعل الرسول عليه السلام يقول له:

    " الحمد لله، الذي جعل في أمتي مثلك"..!!

    وحتى كان اخوانه المؤمنين يسمونه:

    " سالم من الصالحين"..!!

    ان قصة سالم كقصة بلال وكقصة عشرات العبيد، والفقراء الذين نفض عنهم عوادي الرق والضعف، وجعلهم في مجتمع الهدى والرشاد أئمة، وزعماء وقادة..

    كان سالم ملتقى لكل فضائل الاسلام الرشيد..

    كانت الفضائل تزدحم فيه وحوله.. وكان ايمانه العميق الصادق ينسقها أجمل تنسيق.

    وكان من أبرز مزاياه الجهر بما يراه حقا..

    انه لا يعرف الصمت تجاه كلمة يرى من واجبه أن يقولها..

    ولا يخون الحياة بالسكوت عن خطأ يؤدها..

    **


    بعد أن فتحت مكة للمسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا الى ما حول مكة من قرى وقبائل، وأخبرهم أنه عليه السلام، انما يبعث بهم دعاة لا مقاتلين..

    وكان على رأس احدى هذه السرايا خالد بن الوليد..

    وحين بلغ خالد وجهته، حدث ما جعله يستعمل السيوف، ويرق الدماء..

    هذه الواقعة التي عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم نبأها، اعتذر الى ربه طويلا، وهو يقول:

    " اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد"..!!

    والتي ظل أمير المؤمنين عمر يذكرها له ويأخذها عليه، ويقول:

    " ان في سيف خالد رهقا"..

    وكان يصحب خالد في هذه السرية سالم مولى أبي حذيفة مع غيره من الأصحاب..

    ولم يكد سالم يرى صنيع خالد حتى واجهه بمناقشة حامية، وراح يعدّد له الأخطاء التي ارتكبت..


    وخالد البطل القائد، والبطل العظيم في الجاهلية، والاسلام، ينصت مرة ويدافع عن نفسه مرة ثانية ويشتد في القول مرة ثالثة وسالم مستمسك برأيه يعلنه في غير تهيّب أو مداراة..

    لم يكن سالم آنئذ ينظر الى خالد كشريف من أشراف مكة.. بينما هو من كان بالأمس القريب رقيقا.

    لا.. فقد سوّى الاسلام بينهما..!!

    ولم يكن ينظر اليه كقائد تقدّس أخطاؤه.. بل كشريك في المسؤولية والواجب..

    ولم يكن يصدر في معارضته خالدا عن غرض، أو سهوه، بل هي النصيحة التي قدّس الاسلام حقها، والتي طالما سمع نبيه عليه الصلاة والسلام يجعلها قوام الدين كله حين يقول:

    " الدين النصيحة..

    الدين النصيحة..

    الدين النصيحة".

    **


    ولقد سأل الرسول عليه السلام، عندما بلغه صنيع خالد بن الوليد..

    سأل عليه السلام قائلا:

    " هل أنكر عليه أحد"..؟؟

    ما أجله سؤالا، وما أروعه..؟؟!!

    وسكن غضبه عليه السلام حين قالوا له:

    " نعم.. راجعه سالم وعارضه"..

    وعاش سالم مع رسوله والمؤمنين..

    لا يتخلف عن غزوة ولا يقعد عن عبادة..

    وكان اخاؤه مع أبي حذيفة يزداد مع الأيام تفانيا وتماسكا..

    **


    وانتقل الرسول الى الرفيق الأعلى..

    وواجهت خلافة أبي كبر رضي الله عنه مؤامرات المرتدّين..

    وجاء يوم اليمامة..

    وكانت حربا رهبة، لم يبتل الاسلام بمثلها..

    وخرج المسلمون للقتال..

    وخرج سالم وأخوه في الله أبو حذيفة..

    وفي بدء المعركة لم يصمد المسلمون للهجوم.. وأحسّ كل مؤمن أن المعركة معركته، والمسؤولية مسؤوليته..

    وجمعهم خالد بن الوليد من جديد..

    وأعاد تنسيق الجيش بعبقرية مذهلة..

    وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم وتعاهدا على الشهادة في سبيل الدين الحق الذي وهبهما سعادة الدنيا والآخرة..

    وقذفا نفسيهما في الخضمّ الرّهيب..!!

    كان أبو حذيفة ينادي:

    " يا أهل القرآن..

    زينوا القرآن بأعمالكم".

    وسيفه يضرب كالعاصفة في جيش مسيلمة الكذاب.

    وكان سالم يصيح:

    " بئس حامل القرآن أنا..

    لو هوجم المسلمون من قبلي"..!!

    حاشاك يا سالم.. بل نعم حامل القرآن أنت..!!

    وكان سيفه صوّال جوّال في أعناق المرتدين، الذين هبوا ليعيدوا جاهلية قريش.. ويطفؤا نور الاسلام..

    وهوى سيف من سيوف الردة على يمناه فبترها.. وكان يحمل بها راية المهاجرين بعد أن سقط حاملها زيد بن الخطاب...

    ولما رأى يمناه تبتر، التقط الراية بيسراه وراح يلوّح بها الى أعلى وهو يصيح تاليا الآية الكريمة:


    ( وكأيّ من نبي قاتل معه ربيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)...

    ألا أعظم به من شعار.. ذلك الذي اختاره يوم الموت شعارا له..!!

    **


    وأحاطت به غاشية من المرتدين فسقط البطل.. ولكن روحه ظلت تتردد في جسده الطاهر، حتى انتهت المعركة بقتل نسلمة الكذاب واندحار جيش مسيلمة وانتصار المسلمين..

    وبينما المسلمون يتفقدون ضحاياهم وشهداءهم وجدوا سالما في النزع الأخير..

    وسألهم:

    ما فعل أبو حذيفة..؟؟

    قالوا: استشهد..

    قال: فأضجعوني الى جواره..

    قالوا: انه الى جوارك يا سالم.. لقد استشهد في نفس المكان..!!

    وابتسم ابتسامته الأخيرة..

    ولم يعد يتكلم..!!

    لقد أدرك هو وصاحبه ما كانا يرجوان..!!

    معا أسلما..

    ومعا عاشا..

    ومعا استشهدا..

    يا لروعة الحظوظ، وجمال المقادير..!!

    وذهب الى الله، المؤمن الكبير الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يموت:

    " لو كان سالم حيّا، لوليته الأمر من بعدي"..!!


      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 19 2024, 16:14