[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
التسلط الكنسى فى العصور الوسطى
إن الطغيان والتسلط الكنسي لم يكن المتضرر الأول منها طبقات الشعب المعدمة، بل كان أكثر الناس تضررًا من ذلك هم الملوك والأباطرة. فإن كانت الكنيسة قد زعمت أن المسيح عليه السلام قد أعطى قيصر وحكمه شرعية الوجود، حين وضعت على لسانه هذه الكلمات: 'أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله'، وفسرتها- عمليًا- بترك القانون الروماني يحكم العالم المسيحي بدلًا من شريعة الله؛ إلا أن الواقع كان مغايرًا تمامًا لذلك.
فقد ادعت الكنيسة لنفسها سلطة دنيوية [أو زمنية Temporal] كما يسمونها في التاريخ الأوروبي وكانت تطلب وتمارس سلطانًا شخصيًا بحتًا، وأرضيًا بحتًا، هو أن يطأطئ الملوك والأباطرة لها الرؤوس، وأن يعلنوا أنهم خاضعون لسلطانها.
يقول ول ديورانت :أصدر البابا نقولا الأول بيانًا قال فيه: "إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين، حكامًا كانوا أو محكومين".
ولكي يستطيع رجال الدين أن يكون لهم تلك السلطة على الملوك والأباطرة أنفسهم فقد كانوا سابقين لعصرهم في ناحية مهمة وهي الناحية التنظيمية، إذ كانوا مؤسسة تنظيمية مركبة تركيباً عضوياً دقيقاً، من القاعدة العريضة الممتدة في كافة الأصقاع والأقاليم إلى قمة الهرم المتمركزة في روما، وهذه الميزة أكسبتهم نفوذاً مستمراً لا يقبل المنافسة وجذوراً عميقة يصعب اقتلاعها.
إضافة إلى ذلك كان البابوات هم الذين يتولون تتويج الملوك والأباطرة، كما كان في إمكانهم خلع الملوك وعزلهم بإرادتهم المحضة، ولم يكن باستطاعة أحد الانفلات من ذلك، ومن رفض الرضوخ فإن حكمه غير شرعي، ومن حق البابوية أن تعلن الحرب الصليبية عليه وتحرم أمته.
ولذلك فشل الكثير من الأباطرة والملوك المتمردين على الكنيسة في مواجهتها، كما أن العالم الغربي المسيحي لم يستطع التخلص من قبضة الكنيسة إلا بعد الثورة الداخلية التي قادها المصلحون الكنسيون، والتي أدت إلى إضعاف الهيكل التنظيمي والسلطة المركزية وتشتيت ولاء الأفراد.
وعلى الجانب الآخر كان ملوك أوروبا يضيقون ذرعاً بتدخل الكنيسة المتعنت في كل شؤونهم ولم يكن يسكتهم عن ذلك التسلط السياسي إلا الحفاظ على مناصبهم ومراكزهم. يقول فيشر: "كانت الأسر الحاكمة في أوروبا تستمد بقاءها من صلتها النسبية بأحد القديسين، فيرثون منه قداسته ولا يبالي الشعب بعد ذلك بتصرفاتهم لأنهم مقدسون" .
وفي القرون الوسطى مارست الكنيسة ذلك السلطان بالفعل على الحكام والمحكومين، مع وجود فترات من الصراع المتبادل، حيث يتمرد بعض الملوك والأمراء على سلطة البابا، ويشتد آخرون في حربهم للبابوات حتى إنهم ليعزلون البابا أو ينفونه أو يسجنونه، ولكن السلطة الغالبة كانت للكنيسة، حيث إنها تستمدها من سلطانها الروحي الطاغي على قلوب الناس، ومن جيوشها الكثيفة ومن أموالها التي تضارع ما يملكه الملوك وأمراء الإقطاع.
وقد جرؤ ادوارد الأول ملك انجلترا، وفيليب الجميل ملك فرنسا، على القول بأنه:" ليس من الضروري أن يخضع الملك للبابا لكي يحظى بالجنة في الآخرة، وأن كلًّا منهما قد نوى أن يكون سيداً في مملكته، وأن شعبه يؤيده في هذه النية تمام التأييد".
ويروي فيشر قصة الصراع بين البابا هلد براند أو جريجوري السابع وهنري الرابع إمبراطور ألمانيا فيقول: "...ذلك أن خلافًا نشب بينهما بين البابا والإمبراطور حول مسألة التعيينات أو ما يسمى التقليد العلماني، فحاول الإمبراطور أن يخلع البابا، ورد البابا بخلع الإمبراطور، وحرمه وأحل أتباعه والأمراء من ولائهم له وألَّبهم عليه، فعقد الأمراء مجمعًا قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على المغفرة لدى وصول البابا إلى ألمانيا؛ فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد، فوجد الإمبراطور نفسه كالأجرب بين رعيته، ولم يكن في وسعه أن ينتظر وصول البابا، فضرب بكبريائه عرض الحائط، واستجمع شجاعته وسافر مجتازًا جبال الألب والشتاء على أشده؛ يبتغي المثول بين يدي البابا بمرتفعات كانوسا في تسكانيا، وظل واقفًا في الثلج في فناء القلعة ثلاثة أيام، وهو في لباس الرهبان متدثرًا بالخيش حافي القدمين عاري الرأس يحمل عكازه، مظهرًا كل علامات الندم وأمارات التوبة، حتى تمكن من الظفر بالمغفرة والحصول على رضا البابا العظيم".
وفي بريطانيا حدثت قصة أخرى مماثلة يقول ول ديورانت: "فقد حصل نزاع بين الملك هنري الثاني وبين تومس بكت رئيس أساقفة كنتربري؛ بسبب دستور رسمه الملك يقضي على كثير من الحصانات التي يتمتع بها رجال الدين، ثم إن رئيس الأساقفة اُغتيل، فروعت المسيحية وثار ثأرها على هنري، ودمغته بطابع الحرمان العام، فاعتزل الملك في حجرته ثلاثة أيام لا يذوق فيها الطعام، ثم أصدر أمره بالقبض على القتلة، وأعلن للبابا براءته من الجريمة، ووعد بأن يكفر عن ذنبه بالطريقة التي يرتضيها، وألغى الدستور، ورد إلى الكنيسة كل حقوقها وأملاكها، وبالرغم من ذلك لم يحصل على المغفرة حتى جاء إلى كنتربري حاجاً نادماً، ومشى الثلاثة أميال الأخيرة من الطريق على الحجارة الصُّوَّان، حافي القدمين ينزف الدم منهما، ثم استلقى على الأرض أمام قبر عدوه الميت، وطلب من الرهبان أن يضربوه بالسياط، وتقبل ضرباتهم وتحمَّل كل الإهانات في سبيل استرضاء البابا وأتباعه".
التسلط الكنسى فى العصور الوسطى
إن الطغيان والتسلط الكنسي لم يكن المتضرر الأول منها طبقات الشعب المعدمة، بل كان أكثر الناس تضررًا من ذلك هم الملوك والأباطرة. فإن كانت الكنيسة قد زعمت أن المسيح عليه السلام قد أعطى قيصر وحكمه شرعية الوجود، حين وضعت على لسانه هذه الكلمات: 'أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله'، وفسرتها- عمليًا- بترك القانون الروماني يحكم العالم المسيحي بدلًا من شريعة الله؛ إلا أن الواقع كان مغايرًا تمامًا لذلك.
فقد ادعت الكنيسة لنفسها سلطة دنيوية [أو زمنية Temporal] كما يسمونها في التاريخ الأوروبي وكانت تطلب وتمارس سلطانًا شخصيًا بحتًا، وأرضيًا بحتًا، هو أن يطأطئ الملوك والأباطرة لها الرؤوس، وأن يعلنوا أنهم خاضعون لسلطانها.
يقول ول ديورانت :أصدر البابا نقولا الأول بيانًا قال فيه: "إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين، حكامًا كانوا أو محكومين".
ولكي يستطيع رجال الدين أن يكون لهم تلك السلطة على الملوك والأباطرة أنفسهم فقد كانوا سابقين لعصرهم في ناحية مهمة وهي الناحية التنظيمية، إذ كانوا مؤسسة تنظيمية مركبة تركيباً عضوياً دقيقاً، من القاعدة العريضة الممتدة في كافة الأصقاع والأقاليم إلى قمة الهرم المتمركزة في روما، وهذه الميزة أكسبتهم نفوذاً مستمراً لا يقبل المنافسة وجذوراً عميقة يصعب اقتلاعها.
إضافة إلى ذلك كان البابوات هم الذين يتولون تتويج الملوك والأباطرة، كما كان في إمكانهم خلع الملوك وعزلهم بإرادتهم المحضة، ولم يكن باستطاعة أحد الانفلات من ذلك، ومن رفض الرضوخ فإن حكمه غير شرعي، ومن حق البابوية أن تعلن الحرب الصليبية عليه وتحرم أمته.
ولذلك فشل الكثير من الأباطرة والملوك المتمردين على الكنيسة في مواجهتها، كما أن العالم الغربي المسيحي لم يستطع التخلص من قبضة الكنيسة إلا بعد الثورة الداخلية التي قادها المصلحون الكنسيون، والتي أدت إلى إضعاف الهيكل التنظيمي والسلطة المركزية وتشتيت ولاء الأفراد.
وعلى الجانب الآخر كان ملوك أوروبا يضيقون ذرعاً بتدخل الكنيسة المتعنت في كل شؤونهم ولم يكن يسكتهم عن ذلك التسلط السياسي إلا الحفاظ على مناصبهم ومراكزهم. يقول فيشر: "كانت الأسر الحاكمة في أوروبا تستمد بقاءها من صلتها النسبية بأحد القديسين، فيرثون منه قداسته ولا يبالي الشعب بعد ذلك بتصرفاتهم لأنهم مقدسون" .
وفي القرون الوسطى مارست الكنيسة ذلك السلطان بالفعل على الحكام والمحكومين، مع وجود فترات من الصراع المتبادل، حيث يتمرد بعض الملوك والأمراء على سلطة البابا، ويشتد آخرون في حربهم للبابوات حتى إنهم ليعزلون البابا أو ينفونه أو يسجنونه، ولكن السلطة الغالبة كانت للكنيسة، حيث إنها تستمدها من سلطانها الروحي الطاغي على قلوب الناس، ومن جيوشها الكثيفة ومن أموالها التي تضارع ما يملكه الملوك وأمراء الإقطاع.
وقد جرؤ ادوارد الأول ملك انجلترا، وفيليب الجميل ملك فرنسا، على القول بأنه:" ليس من الضروري أن يخضع الملك للبابا لكي يحظى بالجنة في الآخرة، وأن كلًّا منهما قد نوى أن يكون سيداً في مملكته، وأن شعبه يؤيده في هذه النية تمام التأييد".
ويروي فيشر قصة الصراع بين البابا هلد براند أو جريجوري السابع وهنري الرابع إمبراطور ألمانيا فيقول: "...ذلك أن خلافًا نشب بينهما بين البابا والإمبراطور حول مسألة التعيينات أو ما يسمى التقليد العلماني، فحاول الإمبراطور أن يخلع البابا، ورد البابا بخلع الإمبراطور، وحرمه وأحل أتباعه والأمراء من ولائهم له وألَّبهم عليه، فعقد الأمراء مجمعًا قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على المغفرة لدى وصول البابا إلى ألمانيا؛ فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد، فوجد الإمبراطور نفسه كالأجرب بين رعيته، ولم يكن في وسعه أن ينتظر وصول البابا، فضرب بكبريائه عرض الحائط، واستجمع شجاعته وسافر مجتازًا جبال الألب والشتاء على أشده؛ يبتغي المثول بين يدي البابا بمرتفعات كانوسا في تسكانيا، وظل واقفًا في الثلج في فناء القلعة ثلاثة أيام، وهو في لباس الرهبان متدثرًا بالخيش حافي القدمين عاري الرأس يحمل عكازه، مظهرًا كل علامات الندم وأمارات التوبة، حتى تمكن من الظفر بالمغفرة والحصول على رضا البابا العظيم".
وفي بريطانيا حدثت قصة أخرى مماثلة يقول ول ديورانت: "فقد حصل نزاع بين الملك هنري الثاني وبين تومس بكت رئيس أساقفة كنتربري؛ بسبب دستور رسمه الملك يقضي على كثير من الحصانات التي يتمتع بها رجال الدين، ثم إن رئيس الأساقفة اُغتيل، فروعت المسيحية وثار ثأرها على هنري، ودمغته بطابع الحرمان العام، فاعتزل الملك في حجرته ثلاثة أيام لا يذوق فيها الطعام، ثم أصدر أمره بالقبض على القتلة، وأعلن للبابا براءته من الجريمة، ووعد بأن يكفر عن ذنبه بالطريقة التي يرتضيها، وألغى الدستور، ورد إلى الكنيسة كل حقوقها وأملاكها، وبالرغم من ذلك لم يحصل على المغفرة حتى جاء إلى كنتربري حاجاً نادماً، ومشى الثلاثة أميال الأخيرة من الطريق على الحجارة الصُّوَّان، حافي القدمين ينزف الدم منهما، ثم استلقى على الأرض أمام قبر عدوه الميت، وطلب من الرهبان أن يضربوه بالسياط، وتقبل ضرباتهم وتحمَّل كل الإهانات في سبيل استرضاء البابا وأتباعه".